ابحث في الويب



رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 10-12 



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء





۞ الفصل العاشر ۞



صدر العدد الجديد من جريدة الأيام في اليوم التالي ، قرأ الناس فيه خبر الطفلة اللقيطة على الصفحة الأولى ، وتناقلت الألسنة قصة هذه الطفلة البائسة باستنكار ، قال هاني وهو يقلب صفحات الجريدة:

ـ لقد وفى الأستاذ سعيد بوعده ، وأورد الخبر بكل تفاصيله ، وها هي الخطة تمضي كما رسمناها..
قلت وأنا ساهم:
ـإذا كانت والدة الطفلة بريئة مستغفلة كما توقعنا ، فسوف تأتي إلى هنا ، لتسأل عن طفلتها ، وإلا فسوف نعود إلى نقطة البداية..

ضحك هاني وقال وهو يرمي الجريدة خلف ظهره:
ـ تتحدث وكأنك محقق حاذق يقف أمام قضية معقدة ، لا أدري كيف أقنعتني بهذه اللعبة!..

قلت له بنبرة جد:
ـ أنا لا ألعب ، إذا كنت تظن الأمر لعبة ، بإمكانك أن تنسحب..

قال هاني ضاحكا:
ـ ولماذا أنسحب؟ أنا استمتع باللعبة ، وأنت تؤدي واجبك كما تعتقد ، كلانا في موقع واحد ، لكن كلا منا ينظر إلى الأمر من زاويته..

واستنفرنا لصد كل من يسأل عن الطفلة ، وانضمت ِإلينا أحلام ، بعد أن شرحت لها الغاية من الخبر الذي نشرنها ، ومضى النهار سريعا دون أن يسأل عن الطفلة أحد ، قال هاني بعد أن انتهى دوامه:

ـ اعذرني يا صديقي ، يجب أن أمضي..
ـ ألن تبقى معي لتكمل اللعبة كما تسميها؟

قهقه هاني عاليا ، وقال:
ـ عفوا ، أنا لا ألعب في الوقت الضائع ، تابع مهمتك يا بطل ، وأخبرني بالنتائج..

ومضى هاني ، فأشعرني انسحابه بأني أعبث ، وكدت أستسخف ما أقدمت عليه لولا أحلام التي أبدت تعاطفا واهتماما ، فقررت أن تمد نوبتها لتراقب نهاية التجربة..

ومضى اليوم الأول دون أن نظفر بنتيجة ، فشعرت بخيبة مؤلمة ، لكني لم أيأس ، استقبلت اليوم التالي بحماس شديد ، ورحت أترقب حضور الأم لتسأل عن طفلتها ، لكن شيئا من هذا لم يحدث!..

شعرت بالإحراج أمام هاني وأحلام ، وكل الذين تعاطفوا معي ، وحاصرني شعور مزعج بأني إنسان مبالغ ينخ الاهتمام في الأمور الصغيرة فتكبر وتنو وتتورم حتى تنفجر ، وتحدث حولها دويا مزعجا يلفت نحوه الأسماع والأنظار..

وانهال هاني عليَّ بتعليقاته اللاذعة ، يتهمني بالمراهقة تارة ، وبالبحث عن تسلية تارة ، ثم راح يرثى لحالي ، ويحذرني من طيبتي الزائدة التي تورطني في مواقف محرجة..

وبعد أيام ، تماثلت الطفلة اللقيطة للشفاء ، وأصبحت حالتها الصحية تسمح لها بالانتقال إلى ملجأ الأيتام..

قالت أحلام:

ـ لقد قدمت تقريرا مفصلا عن حالة الطفلة إلى مدير المستشفى ، ليقوم بتحويلها رسميا إلى ملجأ الحنان للأيتام..

قلت بنبرة آسفة:
ـ كنت أتمنى أن نصل إلى نتيجة..

ابتسمت أحلام وقالت مازحة:
ـ كانت مغامرة فاشلة هذه المرة ، ابحث عن مغامرة جديدة..

لم أجد ما أقوله ، تهالكت على كرسي قريب ، وجلست كالمهزوم..
قالت أحلام بلهجة تشي بالمواساة:
ـ على أية حال ، لقد قمت بجهد نبيل يستحق الاحترام..

شكرتها بإيماءة صامته ، ثم همست وأنا أهم بالنهوض ثانية:
ـ يبدو أني أبالغ كثيرا في اهتماماتي!..
ـ لا تؤنب نفسك ، أردت أن تقدم شيئا مفيدا ، فكان الأمر يفوق طاقتك..

لم تستطع كلمات أحلام الرقيقة أن تخفف عني ، تركتها وهي ترمقني في إشفاق ، وغادرت المكان..
استوقفتني أحلام بعد أن مضيت خطوات وسألتني:
ـ إلى أين؟
ـ إلى العم درويش..
ـ دائما تذهب إليه..
ـ لقد اشتقت إلى قهوته..

ـ بل قل أنك ذاهب لتبوح له بما يثقل صدرك..
ـ كيف عرفتِ؟
ـ كلنا نذهب إليه..
ـ معك حق..


ومضيت مثقلا بالخيبة ، يجتاحني شعور بالتفاهة ، ولم تلبث أحلام أن استوقفتني مرة أخرى:

ـ على فكرة...
ـ ماذا؟
ـ لقد أحضر العم درويش زوجته بالأمس ، وأراها الطفلة..

حملقت في الأرض ، وتصورت للحظة كل المعاني التي تكمن خلف هذه الزيارة، أردفت أحلام:
ـ لقد كان موقفا مؤثرا ، إني أرثي لهذين الزوجين العاثرين..

قلت وأنا أمضي:
ـ يبدو لي أنا جميعا بحاجة إلى رثاء..



۞ الفصل الحادي عشر ۞



قال العم درويش وهو يقدم لي فنجانا شهيا من القهوة:
ـ لم يسألوا عن الطفلة ، أليس كذلك؟
ـ ها أنت مطلع على آخر الأنباء..


تنهد العم درويش وقال وهو يسحب كرسيا ليجلس معي:

ـ هناك أمر يختمر في بالي منذ أيام ، وأريد أن أشاورك فيه..

تناولت رشفة من فنجاني ، وقلت وأنا أرنو إليه في إشفاق:
ـ أعرف ما تريد قوله ، الطفلة ؟ أليس صحيحا؟
ـ هل أستطيع أن آخذها وأربيها؟
ـ تفعل خيرا لو أقدمت على ذلك..

سرت في جسد العم درويش شحنة من الحماس ، وأشرق وجهه بالبشر والحبور ، هتف كالحالم:
ـ سأربيها أحسن تربية ، وسأدللها دلالا تغار منه بنات القصور ، لكم أنا في شوق إلى الأطفال يا دكتور!..

ـ أتفهم مشاعرك ، أنت تستحق كل خير يا عم درويش..


قال العم درويش وهو يستجيب لشحنة جديدة من البشر والنشاط:

ـ لعلك لا تتصور مقدار حماس زوجتي للفكرة ، إنها تلح عليَّ في الصباح والمساء على أخذ الطفلة لنربيها ونرعاها ، وهي تغرق الطفلة بالقبلات والدموع ، وتشبعها ضما ولثما وتقبيلا ، إننا نحيا حياة قاسية بلا أطفال..

كان المسكين يتكلم بحرقة وأسى ، وأحسست بلسع الحرمان الذي يعانيه هو زوجته فقلت أواسيه:
ـ لا تحزن يا عم درويش لعل الله قد شاق الطفلة إلينا لتقر بها عينا أنت وزجتك..

قال العم درويش في لهفة طاغية:
ـ كيف أستطع أخذها؟
ـ عليك أن تتقدم بطلب إلى ملجأ الأيتام الذي ستحول إليه..
ـ ولماذا لا أستلمها من هنا؟ سأوقع على كل الضمانات والتعهدات اللازمة..

ابتسمت مشفقا ، وقلت:
ـ أنت مستعجل أكثر مما يجب!..

أطرق العم درويش وهو يهز رأسه في حزن ، ثم قال بنبرة تنم عن لهفته وأشواقه الملتهبة:
ـ العمر يمضي يا دكتور ، ولم يبق منه سوى القليل ، وأنا أريد أن أودع الدنيا على صوت طفل يقول لي بابا... بابا ، ماما... أغنية جميلة تعطر البيوت الحزينة ، وترد إليها الروح .. أغنية عذبة حرمناها واشتقنا إليها..

نريد أن نسمعها ولو من طفلة لم ننجبها ، وزوجتي يا دكتور صلاح امرأة طيبة ، قدمت لي الحب والإخلاص ولا أستطيع أن أرفض لها طلبا ، لقد ولعت بالطفلة وتعلق قلبها بها ، ويجب أن أحقق لها أمنيتها ، أرجو ألا تفهم أني رجل ضعيف الشخصية أو كما يقول أخي أبو رشيد: رجل محكوم على أمري أصغي لكلام النساء ، الأمر ليس كذلك ، كل ما في الأمر أني أحب زوجتي وأحترمها وأقد الأيام الطيبة التي عشناها معا ، أريد أن أقدم لها خدمة تكافئ تضحيتها من أجلي ، سأعترف لك بشيء..

أنا أعرف أن العيب فيَّ ، أعرف أني الذي لا أنجب ، وهي تعرف ، لكنها امرأة وفية ، رفضت أن ننفصل وتتزوج غيري ، قالت لي يومها والدموع في عينيها: لقد قضينا أجمل سنيَّ العمر محرومين من رائحة الأطفال ، فحمدنا الله ، ورضينا بالمكتوب ، فلماذا تريد أن توقظ الجرح الآن وقد كاد أن يلتئم؟ .. دعنا من هذه السيرة الله يخليك..

ومسح العم درويش دمعة أفلتت منه رغما عنه ثم أردف قائلا:
ـ يجب أن أكافئها يا دكتور ، أليس كذلك؟..

أثار حديث العم درويش مشاعري ، همست وأنا أرنو إليه بانفعال:
ـ أنت مثال طيب للإخلاص والوفاء ، يا عم درويش!..

هتف في ضراعة:
ـ لم تقل لي بعد ، متى أستطيع أخذ الطفلة؟

تناولت رشفة أخرى من فنجاني الذي كاد أن يبرد ، ثم قلت موضحا:

ـ جرت العادة يا عم درويش أن يبقى الطفل اللقيط مدة في الملجأ حتى تكون هناك فرصة لمعرفة أبويه الشرعيين ، وقد تصل هذه المدة إلى بضعة أشهر ، ثم يصبح الباب مفتوحا لمن أراد أن يتول رعاية الطفل أو تربيته..

هتف العم درويش:
ـ هل تعني أن الطفلة يمكن أن...
ـ من يدري؟ قد يظهر أهلها في آخر لحظة..

علته كآبة وقلق ، ولاذ بالصمت ، ابتسمت ، وقلت له:
ـ لماذا أنت واجم؟ لو كان أهلها حريصين عليها لما تخلوا عنها..

قال العم درويش بنبرة حائرة:
ـ لا ادري لماذا تعلق قلبنا بهذه الطفلة بالذات!!..

ثم استدرك قائلا:
ـ هل يتركون لنا حرية اختيار اسمها؟..
ـ أتفكر لها باسم؟

سرح العم درويش ببصره ، وقال كمن داعبه حلم لذيذ:
ـ نعم سأسميها أمل ، فهي الأمل العذب الذي راودنا منذ زمن بعيد..

ثم راح العم درويش يردد الاسم وكأنه يختبر وقعه على الأسماع:
ـ أمل.. أمل.. يا سلام ، إنه أسم لطيف أليس كذلك؟ أمل سأسميها أمل ، وسألحقها بنسبي..

قاطعته محذرا:
ـ إلا هذه يا عم درويش!..
ـ لماذا؟
ـ حتى لا تخدع الطفلة مرة أخرى..
ـ أخدعها؟ كيف؟..

ـ يكفي أن الطفلة قد جاءت إلى الوجود ضحية خطيئة ، وليس من العدل أن تعيش فيه ضحية كذله ، أن تلحقها بنسبك يعني أنها ستنشأ وهي تظن أنك أبوها الحقيقي ، وسيتفتح وعيها على هذا الوهم ، وفي منتصف الطريق تكتشف الحقيقة ، وتعرف أنك لست أباها الشرعي ، وعندها ستعيش الطفلة مأساة حقيقية ، ستلاحقها الشكوك وتحاصرها التساؤلات ، وتخنقها الأوهام..

كن واضحا منذ البداية ، جرعها الحقيقة رشفة رشفة ، وكن واثقا من أن حنانك وحبك ورعايتك لها في الوشيجة الحقيقية التي ستجمع بينكما ، الأنساب وحدها يا عم درويش لا تصنع الحب ، الحب هو الذي يصنع الأنساب..

فكر مليا ثم همس:
ـ صدقت..


وغرق العم درويش في خواطره فانتشلته منها قائلا:

ـ ثمة حقيقة أخرى يا عم درويش يجب أن أصارحك بها..
ـ تفضل..

قلت في دعابة:
ـ لقد بردت قهوتي قبل أنت أنهيها ، وأنا أحب أن أشرب قهوتك ساخنة ، كيف سنعالج هذه المشكلة؟..


۞ الفصل الثاني عشر ۞


كفكفت السماء دموع الشتاء ، وأطلت على الأرض بعيونها الزرقاء ، كحسناء تحضن العالم بنظرتها الصافية الحنون ، وأزاحت الشمس بأشعتها الدافئة بقايا الغيوم ، وتدلت وسط القبة الزرقاء كالقنديل ، وراحت تضيء العالم بالأفراح..
وبدأ الربيع يزحف بهدوء وجلال ، فاستعدت الطبيعة لاستقباله بكل ما أوتيت من فتنة وبهاء وجمال..
وانضمت حديقة المستشفى إلى مهرجان الربيع ، فاكتست برداء أخضر ، وزينت صدرها بالزهور ، واغتسلت بأريج فواح ، يملأ النفس ببهجة فريدة ، ويزرعها بالأشواق..
وهبت نسائم الأصيل ناعمة رقيقة معطرة بعبق الطبية ، فأحسست في مداعبتها اللطيفة همسا خفيا يدعوني لزيارة الحديقة الغناء التي تربطني بها صداقة قديمة..
كان النهار يتسرب رويدا رويدا من جعبة الزمن ، فطفقت الشمس المتعبة تلملم أشعتها الذهبية استعداد للرحيل ، وتوهج الأفق بألوان الغروب الرائعة ، وران على الحديقة هدوء شامل ، وصمت عميق..
ألقيت نفسي في أحضان الحديقة الخضراء ، واسترخيت فوق بساطها العشبي الطري ، كطفل ينام على صدر أمه ، وأرسلت نظراتي إلى الأفق الوردي ، لأمتعها بلوحة الأصيل الساحرة التي رسمتها يد القدر في أحسن صورة وأروع تشكيل..
لم تدم خلوتي الحالمة طويلا ، ثمة همس رقيق اقتحم عليَّ عالمي ليزيده أنسا وبهجة..
ـ يا للروعة!.. ها هي الحديقة تستعيد جمالها القديم!..
التفت إلى أحلام في لهفة ، وحييتها بابتسامة ، ثم عدت بنظراتي إلى الشمس الغاربة وهي تغوص خلف الأفق ، وأقبلت أحلام تقول:
ـ تبدو منسجما مع الطبيعة إلى أبعد حد لكأنكما صديقان!..
نهضت جالسا ، ثم قلت وأنا أجوب بنظراتي أرجاء الحديقة الغناء:
ـ الطبيعة عالمي وملاذي..
ـ سألتني بلهجة لا تخلو من الدعابة:
ـ قل تسمح لي بالاقتراب من عالمك الجميل؟..
ابتسمت لدعابتها اللطيفة ، وقلت:
ـ الطبيعة للجميع..
جلست أحلام على كرسي قريب وقالت:
ـ بم تفكر؟..
ـ أشياء كثيرة..
ـ الطفلة؟..
ـ ممكن..
ـ أمازلت تفكر بها؟
ـ آلمني أني لم أستطع أن أقدم لها شيئا..
ـ إنما الأعمال بالنيات..
ـ نعم نملك النوايا الطيبة ، لكنا لا نعرف كيف نترجمها إلى عمل.
ـ عدت تؤنب نفسك!
ـ لكم يعذبني العجز!
ـ لطاقة الإنسان عتبة لا يملك أن يتجاوزها..
ـ لكنا نملك أن نحاول..
ـ حاولتَ بما فيه الكفاية..
ـ أنسلم الطفلة إلى الشقاء؟
ضحكت أحلام ، وقالت:
ـ تتحدث عن الطفلة وكأنك الذي أنجبتها!
لم أنبس ، زحفت إلى شجرة قريبة ، واستندت بظهري إلى جذعها النحيل..
قالت أحلام وهي ترنو إلى الأفق:
ـ ليتني أحمل ريشتي وألواني..
نظرت إليها في دهشة:
ـ أتحبين الرسم؟
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة ، وقالت:
ـ أنا رسامة ماهرة ، ألا تعرف؟
ـ أجهل عنك الكثير؟
ـ وأنا أيضا..
ـ تجهلين نفسك!
ـ بل أجهل عنك الكثير..
ـ عنيَّ أنا؟!
ـ أجل ، من أنت؟
ـ يا له من سؤال!
ـ أهو محرج؟
ـ أبدا..
ـ من أنت؟..
ـ شاب كسائر الشباب..
ضحكت وقالت كالمتوعدة:
ـ لا تفسر الماء بالماء..
تذكرت ملاحظة هاني عن اهتمام أحلام بي ، وميليها إليَّ ، فأحببت أن أستغل الفرصة لأعطيها صورة صادقة عني ، لتعرف من أنا؟ وما حقيقة ظروفي؟ فلا تتمادى في الاقتراب من شاب قد لا يصلح لها أو يستطيع إسعادها ، وعادت تقول:
ـ إذا كان سؤالي محرجا فلا تجب..
تنهدت وقلت:
ـ إذا كنت مصرة فلا بأس.. سأقول لك من أنا.. أنا شاب عادي جدا.. شاب مثل كل الشباب.. له طموحاته وأحلامه ، وله همومه وآلامه.. قد أكون جديا أكثر مما يروق للبعض! وقد أكون متمسكا بالقيم العليا أكثر مما صار يطلبه مجتمعنا في شبابه.. أو كما يقول هاني: أنا (حنبلي) أكثر من اللازم.. لكني أعتقد أني طبيعي جدا ، ولست معقدا كما يتهمني هاني أيضا ، هذا أنا ببساطة.. أما إذا أردت بسؤالك أن تعرفي شيئا عن بيئتي وأسرتي فلك ذلك.. لقد ولدت وترعرت في أسرة بسيطة.. ربها إنسان مكافح كرس حياته من أجل أبناءه الستة ، وقضى عمره كالجندي المجهول.. يعمل بصمت ليوفر لأسرته العيش الرغيد ، ويملك قدرة عجيبة على كتم آلامه وأحزانه ، على شفتيه دائما ابتسامة وادعة لا تكاد تغيب ، ابتسامة صامدة في أوقات الحزن والفرح ، فعندما يكون حزينا يخفي حزنه وراء تلك الابتسامة وعندما يفرح يطلق العنان لابتسامته لتتسع وتشرق وتضيء.. يحب أن يمارس حزنه سرا.. ضبطته أكثر من مرة في حديقة المنزل وهو يبكي ، لكني لم أستطع أن أقترب منه لأسأله عن سر حزنه.. كنت أتوارى بسرعة حتى لا أشعره بأني قد كشفت ضعفه ، والدي لا يحب أن يبدو أمامنا ضعيفا ، يريد دائما أن يبدو أمامنا قويا صامدا حتى يشعرنا بالأمان.. إنه قدوة لنا في كل شيء ، ما نهانا عن منكر قط ثم أتى مثله ، حريص على سمعتنا.. حريص على سعادتنا.. يضحي بضرورياته من أجل رفاهيتنا ، ويوجهنا دائما بالابتسام.. صورة فريدة للتواضع وإنكار الذات ملأتنا دائما بالاحترام لهذا الأب المكافح الذي يذوب كالشمع لينير لنا الدروب..
هذا أبي.. أما أمي ، فهي سيدة طيبة فهمت الحياة عطاء وتضحية.. اتخذت من أبنائها الستة قضية نذرت لها العمر ، ورصدت لها أمومتها الفياضة بالحنان لتروي بها براعمها الصغيرة ، ثم راحت ترقبها وهي تنمو وتنضج وتستوي على عودها وسط أعاصير الحياة..
فهمت أمي الزواج على أنه شراكة ، فتقاسمت مع زوجها الأدوار ، أعتقد أن أمي لم تتزوج أبي بعد قصة قيس وليلى ، لكن قصة الحب التي نشأت بينهما بعد الزواج أجمل من قصة قيس وليلى ، وأروع من حب روميو لجولييت ، لأنه حب قائم على التضحية والإخلاص الإيثار.. حب قائم على التكامل بين رجل وامرأة ، والدي كان يكافح في الخارج ليلتقط الحَبّ , وأمي كانت تكافح داخل العش لتفرشه بالحُب..
بيتنا بسيط الأثاث ، لكن أمي استطاعت أن تصنع منه أثاثا أنيقا متجددا لا تبلى أناقته مع الأيام ، فإذا جربت أن تزوري هذا البيت شدتك رائحة النظافة الممزوجة برياحين الزهور ونباتات الزينة التي تربيها أمي كما تربي أولادها ، وإذا صادفت زيارتك لبيتنا وقت الغداء ، فتحت شهيتك رائحة الأصناف اللذيذة التي تنهمك أمي في صناعتها كما ينهمك الفنان في تشكيل لوحته ، أنا لست ضد عمل المرأة ضمن الشروط الاجتماعية المناسبة ، لكني أعتقد أن البيت الذي لا تخلع عليه المرأة اهتمامها ، بيت بلا روح.. بيت كالبيوت المهجورة التي تصفر فيها الريح ، وتعيث فيها الأشباح..
وانتبهت إلى أحلام فوجدتها ترنو إليَّ بنظرات حالمة أحرجتني ، واشتبكت نظراتنا للحظة ، فسحبت نظراتي برفق ، وأرسلتها إلى الأفق لأغسلها بألوان الشفق..



قالت أحلام وهي تمسد بأناملها خصلات شعرها الأشقر المنسدل على صدرها كالوسام:
ـ لا أدري لماذا أتمنى لو كنت أختك؟
فاجأتني كلماتها بكل ما تفوح به من ود!. همست بنيرة تخنق بالانفعال:
ـ أنت أختي فعلا يا أحلام ، هل تشكين في ذلك؟
أطرقت في حياء ، وتضجرت وجنتاها بحمرة فاتنة ، ثم قالت بنبرة كئيبة وهي ترنو بنظراتها إلى لوحة الغروب:
ـ أما أنا فقد ولدت وفي فمي ملعقة من ذهب ـ كما يحلو لوالدي أن يعبر دائما ـ ونشأت نشأة مدللة مغرقة في الترف ، فلا أذكر أني طلبت شيئا أو تمنيته إلا حصلت عليه..
كان عندي من الألعاب أصناف لم يرها طف في بلادي.. ومن الملابس الأنيقة الجميلة ما يكفي أطفال مدرسة أبي من جديد.. وكان لي في قصر أبي جناح كامل خاص بي.. جناح واسع يتسع لعائلة من عشرة أشخاص ، وكان مؤنثا بأجمل وأحدث أنواع الأثاث المصمم للأطفال ، وقد استورده لي والدي خصيصا من إيطاليا..
وكان لي ثلاث خادمات.. واحدة تعنى بنظافتي ، وثانية تهتم بطعامي ، وثالثة ممرضة تشرف على صحتي ، وكانت لي مربية إنكليزية تدعى المس روز.. استوردتها لي أمي لتربيني على أسس التربية الحديثة ، لأنها ليست على قناعة بطرائق التربية العربية.. وهكذا نشأت مدللة مرفهة لا ينقصني شيء سوى الحنان!..
هتفت في إنكار:
ـ الحنان؟!..
ـ نعم الحنان.. افتقدت الحنان الدافئ الندي منذ نعومة أظفاري ، وعشت في هذه الدنيا كنباتات الصحراء ، تراها قوية صامدة في وجه الظروف العاتية ، لكنها جافة خاوية من داخلها ، لا تكاد تجد فيها قطرة ماء..
وأردفت أحلام:
ـ بعض الآباء يظنون أن الحنان بالنسبة للطفل لعبة جميلة ، وغذاء كامل ، ومصروف وفير!.. لا يدركون أن أموال الدنيا وكنوزها لا تغني عن كلمة ودودة من أب أو قبلة غامرة من أم.. لا يدركون معنى أن ينزل الآباء من عليائهم ، ويحنوا هاماتهم ليصغوا إلى ثرثرة أطفالهم ، ويتفهموا مشاكلهم وحاجاتهم ، ويشاركوهم همومهم وأحلامهم.. لا يعرفون معنى أن تروي الأم لطفلها حكاية المساء ، وهي تهدهده قبل أن ينام.. لا يريدون أن يفهموا أن الطفل كائن كامل له كيانه ومشاعره وأحاسيسه وحاجاته العميقة التي تحتاج إلى تلبية واهتمام , لأنها إذا لم تلب على الوجه السليم تحولت إلى قنابل مدمرة.. قنابل مؤقتة مزروعة في خبايا النفوس لا يدري أحد متى ستنفجر؟!..
نعم.. نشأت وترعرعت في بيت كالجنة ، لكنها جنة كاذبة ، أشجارها وأزهارها صناعية جامدة بلا روح ، ميتة لا تجود بقطرة ندى ، ولا تفوح برحيق شذي.. جنة خانقة هواؤها ساكن ساخن جاف لا تلوح فيه نسمة رقيقة ، أو يغرد فيه طير..
أبي تاجر مشهور ورجل أعمال ناجح ، وثري كبير من الأثرياء الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة ، وأمي سيدة مشهورة من سيدات المجتمع الذين يحلو لعشاق الثرثرة الاجتماعية أن يسموه بالمجتمع الراقي..
أمي تقول بأن أبي تزوجها طمعا بثروتها التي ورثتها عن أبيها وزوجها السابق ، وأبي يدافع عن نفسه أمام اتهاماتها الجارحة ، فيؤكد بأنه كان يحبها منذ أن كانت صبية في بيت أبيها ، وأنه كاد يعلم خبر وفاة زوجها في حادث طائرة ، حتى سارع إليها ليقف معها في محنتها ويحميها من الطامعين ، وانتهى الأمر بهما إلى الزواج..
أمي تقول بأنها قد رفعت أبي من وضاعة الأصل ، وحملته بيديها إلى صفوف الطبقة الراقية ، وأبي يقول بأنه قد حمى لها ثروتها من الضياع ، ونماها لها أضعافا مضاعفة..
أمي تقول وأبي يقول ، وأنا ضائعة بين والدين جمع بينهما الزواج ، وفرق بينهما الخصام ، ولم تستطع الأيام أن تشد أحدهما إلى الآخر ، وكنت أنا القاسم الوحيد بينهما..
وانهمك أبي في أعماله الواسعة ، فكان يقضي نهاره في الشركات والصفقات والاجتماعات ، ويمضي ليله ساهرا مفكرا مقطبا قلقا مشغول البال بمستقبل مشاريعه التي لا تنتهي ، وأحيانا كان يغيب في أسفاره فلا أره لمدة طويلة..
وأسرفت أمي في علاقاتها وزياراتها وحفلاتها واهتماماتها النسائية ، فكانت لا تكاد تحضر حتى تغيب ، وكأن البيت وحش يطاردها وتطارده..
عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي تعلقت بالمعلمة آنذاك تعلقا شديدا ، لأني وجدت عندها عطفا واهتماما لم ألمسه عند أمي المشغولة بطقوس المجتمع الراقي ، أو أبي الذي تحول إلى آلة حاسبة ، لا تنطق إلا بالنسب والأرقام..
لاحظت أمي تعلقي بالمعلمة ، وكثرة حديثي عنها ، فدعتها لزيارتنا ، ولما تيقنت من شدة تعلقي بها عرضت عليها أن تعمل مربية خاصة لي إلى جانب المس روز الإنكليزية ، وعرضت عليها أجرا يفوق أجرها في مهنة التعليم ، اعتذرت المعلمة لأمي بأن لها طفلين توفق بصعوبة بين متطلبات تربيتهما ، ومهنتها كمعلمة ، رفعت أمي الأجر إلى الضعف مرة أخرى.. لكن المعلمة أصرت على موقفها..
ذات يوم لاحظت المعلمة أني أوزع النقود على بنات صفي ، فأدركت أني أشتري الحب والحنان والاهتمام بالنقود السخية التي تمنحها لي أسرتي كمصروف يومي..
زارت المعلمة أمي وأخبرتها بهذه الظاهرة التي تكررت مني ، ونصحتها أن توليني المزيد من العطف والاهتمام ، شعرت أمي بالإهانة ، وقالت للمعلمة بأنها أم مثالية لا تضن على ابنتها بعطفها وحنانها ، وأنها توفر لي ظروفا تربوية خاصة لا تتوافر لغيري من الأطفال ، حاولت المعلمة أن توضح لها وجهة نظرها ، لكن والدتي أنذرتها بأنها لا تسمح لها بالتدخل في شؤونها الخاصة ، وأعلمتها بأن الزيارة قد انتهت..
بكيت بشدة وأنا أرى المعلمة المسكينة ، تغادر البيت مطرقة كسيرة ، لحقت بها لأتعلق بها وأستبقيها ، لكن الخادمة حجزتني كما يحتجز الشرطي أسيره عندما يهم بالهرب..
وبعد أيام انتقلت المعلمة من المدرسة ، وانقطعت عني أخبارها!..



ودارت السنون بسرعة ، فم تستطع أن تمحو تلك المعلمة الطيبة من ذاكرتي ، وشاءت الأقدار أن ألتقيها أثناء امتحانات الشهادة الثانوية حيث كانت مكلفة بمراقبة القاعة التي كنت أقدم فيها امتحاناتي ، شاهدتها وهي تدخل القاعة بصحبة زميلاتها من المراقبات ، فخفق قلبي ، واندلع فيه الشوق والحنين إليها ، فتقدمت منها والدموع تترقق في عيني ، وذكرتها بنفسي ، فاحتضنتني في لهفة وحب ، كما تحتضن الأم ابنتها ، وهي تستقبلها بعد غربة طويلة ، وانتبهت لصديقاتي ، وهن يرقبن الموقف المؤثر في تساؤل وحيرة ، فالتفتُّ إليهن وقلت: هل تعرفن من هذه؟.. إنها أروع وأعظم معلمة مرت في حياتي ، ثم أردفت وأنا أرمقها بود وإكبار وقد خنقتني العبرات "إنها أمي الثانية"..
شدت المعلمة على يدي وقالت كالخجلى: التفتي لامتحانك الآن ، وسنلتقي فيما بعد لنتحدث.. وجلسنا في مقصف المدرسة ، تأملت وجهها الطيب ، فوجدتها قد تقدمت في السن ولمحت في محياها بعض الأخاديد الصغيرة ، التي نحتها الزمن في بشرتها الصافية بدقة ، فأضافت إلى ملامحها اللطيفة وقارا آسرا مريحا ، سألتها عن الماضي فأخبرتني بكل ما كان..
لأول مرة في حياتي اصطدمت بالوجه الآخر لأبي ، عندما علمت أنه بنفوذه الواسع استطاع أن ينقل معلمتي من المدرسة التي كنت فيها لإرضاء رغبة أمي وغرورها..



هل أنا قاسية في حديثي عن أسرتي يا دكتور؟!..



داهمتني أحلام بالسؤال ، فانتزعتني من شرودي وأنا أصغي لذكرياتها الحزينة ، ما بال القشور الهشة تتساقط أمامي لتواجهني الحقائق المرة بوجهها القبيح!. أهذه هي أحلام التي عاشت في خيالي أميرة سعيدة كأميرات الحكايات والأساطير؟!.. هل يمكن أن تتحول جدران القصور المنيفة إلى أسوار سجن كئيب؟. وشعرت أن في بوح أحلام رسالة خاصة لي يجب أن أستقبلها باهتمام ، وأرد عليها بمثل الصدق الذي وردتني به..
قلت بنبرة هادئة:
ـ دكتورة أحلام ، إني أتفهم ما تعانيه من آلام أرجو أن تستمري في بوحك هذا إن كنت تجدين فيه راحة لك ، وتأكدي بأن هذه الأسرار ستبقى دفينة في ذاكرتي لا يطلع عليها أحد..
همست أحلام وهي ترنو إلىَّ بنظرة دامعة:
ـ لا أدري لماذا أنا مشدودة للبوح لك؟.. لك أنت بالذات!..
همست لها بالشكر على هذه الثقة ، بينما تابعت بوحها الهادئ الحزين..
قالت:
ـ اعتذرت للمعلمة عن كل ما بدر من أسرتي نحوها ، ووعدتها بأني سأقيم الدنيا وأقعدها من أجلها ، فرجتني بكل ما بيننا من ود ألا أنكأ جرحا قديما قد اندمل ، ثم قالت لي وهي تحتضن يدي بين راحتيها الحانيتين:
"أريدك يا أحلام أن تحفظي عني هذه الحكمة ، إن المال والجاه والنفوذ لا يصنع السعادة ، السعادة يا ابنتي لا تأتي من حولنا إنها تنبثق من داخلنا عندما تكون نفوسنا طاهرة نظيفة ، النفوس النبيلة يا ابنتي كالجوهر المشع ، دائما تتوهج بالسكينة والرضى والسلام ، هل فهمت هذا الدرس يا أحلام؟ إنه الدرس الأخير من معلمة نظرت إليك دائما كواحدة من بناتها.."
قلت لها وأنا في ذروة التأثر والنفعال: "لقد فهمت جيدا ، سأتخذه شعارا في حياتي ، سأحتفظ به كذكرى لأم عظيمة لم تلدني ، وصديقة غالية لن أنساها "..



وتقاطرت الدموع من عيني أحلام ، كما يتقاطر الندى من عيون الزهر ، فبدت كوردة غسلتها السماء بماء المطر فطهرتها من غبار الأرض ، وأدركت أن هذه الذكريات مغروسة في وجدانها ، ضاربة الجذور في أعماقها الطاهرة ، وتأثرت لمنظرها الباكي فملأني الشجن ، وأطرقت مليا ، فانتظرتها ريثما استوعبت دفقة الحزن التي أثارها حديث الذكريات القديمة ، ثم أصغيت إليها وهي تقول بعد صمت قصير:
ـ منذ ذلك اليوم وأصبح همي أن أكون نظيفة من الداخل ، احتقرت المظاهر الفارغة والبذخ المجنون ، استعليت على المادة بكل صورها وأشكالها..
وشعرت أمي بانقلاب مدهش في حياتي ، لم أعد حريصة على آخر موضة ، لم أعد مهتمة بموديل السيارة ، لم أعد متمسكة بالمظاهر ، صرت زاهدة بكل شيء..
ذات يوم زارنا ابن خالتي ، فقال لأمي : تبدين يا خالتي أجمل من ابنتك أحلام! نعم.. أمي ما زالت شابة! كرست حياتها لجمالها ، وحافظت عليه بكل ما أوتيت من وسائل ، وضحت في سبيله بأمور أهم بكثير من الزيارة اليومية لصالون الحلاقة ، ونادي اللياقة البدنية ، ومعارض الأزياء ، أما أنا فقد كرست حياتي للبحث عن السعادة التي لا تزول بزوال جمال البشرة وانهدام الوجه وترهل الجسد وفقدان الرشاقة..
كرست حياتي للبحث عن الإنسان.. الإنسان الذي تخفق داخله المشاعر العليا ، وتسمو اهتماماته عن حاجات الغريزة ، وصرخات الأنا.. ترى هل أجد هذا الإنسان؟!..
ورنوت إلى أحلام.. لأول مرة شعرت بأن القدر قد جمع بيني وبينها لحكمة بدأت أدركها!..
وهبطت العتمة على الحديقة الهادئة ، فمضينا إلى الداخل في صمت وقد غرق كل منا في خواطره..
كان في أعماقي شيء يولد..
شيء مبهم ، لكنه لذيذ!..


0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة