ابحث في الويب




منذ أن دخل رامي الشلة أفسدها..

شاب مستهتر وعابث.. لطالما حذر حامد صديقه سالم منه.. لم يرتح إليه منذ اللحظة الأولى.. أصبح يراه أشبه بشيطان، يوسوس في صمت..

لقد استطاع بخبثه ودهائه أن يخترق ثلة الأصحاب التي لم تتجاوز اللهو البريء ومرح الشباب إلى أي منكر.. وكان سالم هو الثغرة التي تسلل منها.. سالم شاب منطلق يعشق المرح والضحك، لكنه لم يتجاوز يوما الحدود.. رامي أرضى فيه هذا الجانب فأحبه سالم وفرضه على الجميع.. لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد.. تطورت بسرعة إلى ماهو أدهى.. الليلة على سبيل المثال.. رآه بعينه وهو يدس السيجارة الملغومة في جيب سالم.. وعض حامد على شفتيه من الغيظ.. كيف يمكن له أن يستنقذ صديقه من هذا العابث؟! ..

انقضت السهرة بعد عشاء شهي، دعا إليه رامي، وأصر سالم على دفع فاتورته.. سالم كريم وشهم، لكنه طيب إلى حد السذاجة، وعنيد..  خبره خلال صحبة طويلة، امتدت من أيام الطفولة إلى زمالة العمل.. على أنه لم يجد صديقه  يوما منقادا للهو والاستهتار كهذه المرة.. صحبة السوء التي دهمته مع سيء الذكر رامي، تكاد تعصف بروح المودة التي جمعت هذه الشلة المتناغمة لسنوات.

نفخ سالم آخر سحابة دخان من سيجارته، وألقى بها في سلة كانت لدى الباب، وأخرج مفتاح السيارة متوجها لقيادتها في طريق العودة.

أمسك حامد بمرفقه:
- سالم .أرجوك.. دعني أقود عنك هذه المرة.. لا تبدو على ما يرام!.

  نظر اليه سالم في إنكار:
- هذه أول مرة تطلب أن تقود مكاني، عندما نكون في سيارتي!.  ماذا دهاك؟!.

قال حامد، وهو يرمقه بنظرة ذات مغزى:
- لقد رأيت رامي، وهو يضع السيجارة في جيبك..
- سيجارة!
- ليتها كانت سيجارة!.
- ماذا تقصد؟
- أنا لا ألمح.. أنت فعلا في حالة غير مرضية.. ألا تلاحظ كيف تمشي بتثاقل، يوحي بما أصاب أعصابك من خدر..

قال سالم وهو يعب نفسا عميقا من هواء الخريف البارد:
- كن مطمئنا.. أنا في كامل وعيي.. إنها سيجارة عادية، لكنها من النوع الثقيل.
- رامي هذا فتنك بألاعيبه.. أراهن على أنها مشبعة بنوع من المخدر.. لا تكابر.. دعني أقود السيارة مكانك..
 وفتح سالم باب السيارة بعصبية، وجلس خلف المقود.
- هيا اركب، ولا تكن جبانا.

تردد حامد، لكنه أشفق على صاحبه، وشعر بأنه إذا رافقه، قد يحميه من خدره، إن شعر بأن الأمور تسوء..
وأدار سالم المفتاح بعصبية، بينما جلس حامد راضخا لرغبته، وهو يكتم غيظه.. العشرة والصداقة تجعله دائما يسايره.. صحيح أنه ينطوي على شيء من الأثرة والأنانية، لكنه طيب.. واليوم يشعر حامد أكثر من أي وقت مضى، بأنه يجب أن يقف بجانبه، ليستنقذه من صاحب السوء، هذا الذي سيطر عليه بخبثه وشقاوته..
وانطلقت السيارة الحمراء، تطوي شوارع المدينة كالسهم.
- خفف السرعة قليلا يا سالم.. من لا يحسب لا يسلم.
- لكأني أقود السيارة بك لأول مرة . كف عن وعظك السمج..
- لكنك اليوم لست ككل يوم. أرجوك لا تجازف.
حرص حامد ونصائحه استفزت غرور سالم فتمادى..
- المدينة جميلة في الليل.. أحب أن أستمتع بالتجوال في المدينة، عندما تتخفف من زحمتها.

وزاد سالم من سرعة سيارته في تحد،  فطارت السيارة كالصاروخ تنهب شوارع المدينة الوادعة.. سيجارة رامي التي لعبت في رأسه، جعلته لا يرى الذعر الذي أطل من وجوه السائقين الآخرين، الذين راحوا يتحاشون هذه القنبلة الطائرة التي تتهددهم.
وانتابت سالم حالة من الزهو، ولعب المخدر في رأسه، فميع وعيه، وبعثر تركيزه.. لم ير الإشارة الحمراء، فتجاوزها.. السهم الأحمر ينطلق نحو غايته.. من يستطيع أن يوقف سهما، انفلت من وتره الذي توتر الى مداه؟.
صرخ حامد: سالم أرجوك. خفف السرعة، واحذر من المزيد.
لم يرد.. لم يكترث..
واستقر السهم أخيرا. كان الهدف حافلة صغيرة لأحد الفنادق، تقل مسافرين خرجو للتو من المطار في طريقهم الى مأواهم.
واستقر السهم في قلب الحافلة كالقذيفة. تطايرت الدماء والاشلاء.. ثلاثة قتلى وثلاثة عشر جريحا، والحصيلة تنذر بزيادة نسبة القتلى على حساب المصابين.. حامد المسكين الذي أشفق على صاحبه، ومضى معه في رحلة خطرة، على أمل أن ينصحه وينبهه ويحافظ عليه، قضى نحبه على الفور.

وعاش سالم..
لكنه عاش مقعدا عاجزا كئيبا، فاقدا للحركة، فاقدا للنطق، فاقدا للرجولة..

وكلما تذكرسالم صديقه حامدا، ارتجفت أوصاله، وزلزلت الذكرى قلبه، واعترته كآبة أقسى من الموت..

ليته كان أول الضحايا، ولا يكابد هذا العذاب، وكأنه واحد من سكان جهنم، الذين كلما احترقت جلودهم نمت لهم جلود غيرها، حتى يشعروا بنارها من جديد.

المشاركات الشائعة

About this blog

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بالنسخ أو الاقتباس أو النشر بأنواعه إلا بإذن خطي من المؤلف