ابحث في الويب



رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 22-24



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء




۞ الفصل الثاني والعشرون ۞

خرجت وأنا أنتفض من الغضب ، وعندما أسلمتني قدماي إلى الشارع ، أحسست بعمق الجرح الذي خلفه هذا اللقاء العاصف في نفسي. ارتميت في سيارتي كالخائر ، وألقيت برأسي على المقود ، ورحت أستذكر كل ما كان.. الآن فهمت كل شيء.. لقد وجد والد أحلام أن رفضه لرغبة ابنته في الزواج مني ، سيزيدها إصرارا على موقفها وتمسكا برأيها ، فحاول بدهائه أن يستوعبها ، فأبدى استعداده للقائي وبحث الأمر معي ، وقد أعد في خياله خطة خبيثة لتشويه صورتي أمام أحلام.. ظن أن كل الناس مثله.. يسقطون أمام بريق المال ، ويستسلمون في سبيله بسهوله.. صور له خياله المريض أني شاب سهل المنال ، لن تصمد مثله وأخلاقه أمام عرضه المغري ، فحاول شرائي بمئتي ألف دولار ، أبيع بها ضميري ، وأستغل لقبي الطبي لأفتي له بصلاحية الأغذية الفاسدة ، فيسوق بضاعته الكاسدة ، وأسقط في نظر أحلام.. هذا الذئب الأنيق.. كم أوتي من الخبث والدهاء؟!.. كل حركة عنده مرسومة ومحسوبة بدقة.. يريد دائما أن يربح.. حتى الخسارة يوظفها ، ويستفيد منها في تحقيق ربح أو فوز جديد..

وعدت أدراجي إلى البيت ، فأغلقت علي باب غرفتي.. واستلقيت فوق سريري منهكا ساخطا كئيبا ، وقد أرهقت نفسي الصدمة التي تلقيتها على يد والد أحلام.. هذا الرجل القاسي الذي ملأه المال غرورا وغطرسة واستهانة بمشاعر الناس ومصائرهم!.. واستغرق تفكيري سؤال كبير: كيف سأتمكن من إنقاذ أحلام البريئة الرقيقة من بين مخالب أبيها الذي يقف حاجزا عنيدا بيني وبينها؟.. واعترض أفكاري طرق على الباب ، فاعتذرت عن فتحه متذرعا بالتعب والإرهاق ، عاد الطرق مشفوعا بصوت أمي وهي تقول:
ـ جاءتك رسالة ، افتح وخذها..

رسالة!.. ما هذه الرسالة؟.

دفعني الفضول لمعرفة مصدر الرسالة وفحواها ، فنهضت متثاقلا ، وفتحت الباب ، قالت أمي وهي تراني أقطر كآبة:
ـ ماذا بك؟ لا تبدو بخير!..
ـ متعب قليلا.. هاتِ الرسالة.

أعطتني الرسالة وهي تشملني بنظرات قلقة ، قالت بنبرة حانية:
ـ هل أصنع لك شيئا؟ تبدو وكأنك مريض.
ـ لا.. لست مريضا.. فقط دعوني أرتاح.
ـ كما تشاء..

وكادت تمضي ، فاستوقفتها وأنا أقلب الرسالة بين يدي:
ـ من أحضر الرسالة؟
ـ رجل غريب.. أعطانيها ثم مضى بسرعة!.
ـ إنها بلا عنوان!.
ـ لكن ، مكتوب عليها أن نسلمها لك شخصيا.
ـ صحيح ، ولكن ، من أرسلها؟
ـ افتحها وستعلم..

فضضت الرسالة ، ,أخرجت ما فيها بسرعة ، فصفعتني المفاجأة ، وأذهلتني ، وقرأت أمي في وجهي غضبا وانفعالا فسألتني على الفور:
ـ ما بك؟ لماذا انقلب لونك هكذا؟

قلت متلعثما ، وأنا أخفي الرسالة خلف ظهري:
ـ لا شيء.. لا شيء..

سددت أمي نظرة ثاقبة ، وقالت:

ـ لا تخفِ عني ، فأنا أمك ، وأستطيع أن أستشف ما بداخلك ، لقد أثارتك الرسالة إثارة بالغة!.
ـ قلت لك لا شيء..
ـ بل هناك شيء.
ـ رسالة من صديق.. هذا كل ما في الأمر.
ـ وتثيرك إلى هذا الحد؟!
ـ أرجوك أن تتركيني لوحدي..
ـ أنت تخفي عني أمرا خطيرا...
ـ أرجوك..

استسلمت أمي لرغبتي ، وغادرتني قلقة متوجسة.. أغلقت الباب خلفها ، وتهالكت على كنبة قريبة ، ورحت أتأمل ما حملته لي الرسالة..

مفاجآت الذئب الأنيق عبد الغني الذهبي لم تنته بعد كما تصورت ، وخططه الدنيئة كانت أبعد مما أسأت به الظن.. حادثت السكرتيرة اللعوب لم يكن صدفة بحته ، أو تصرفا عابثا من امرأة سطت عليها الرغبة ، وفقدت كوابح الإرادة.. بل كان تصرفا مدبرا مرسوما بإتقان!.. وها هي الصورة التي حملتها لي الرسالة تثبت ذلك..

لقد استطاع المصور الذي قابلته خارجا من مكتب والد أحلام ، أن يخفي كاميرته خلف الأستار المخملية الزرقاء ، ويلتقط لي صورا عديدة وأنا أحاول مساعدة السكرتيرة ، واختار منها لقطة مقنعة كما أوصاه سيده.. "أريد لقطة مقنعة".. وهل هناك لقطة أكثر إقناعا وتشويها لسمعتي من صورة السكرتيرة اللعوب وهي تطوقني بذراعيها ، وتقبلني؟!.. الأوغاد.. من يرى الصورة لا يصدق أن ما جرى كان خدعة قذرة!ّ.. في أي عالم نعيش؟!..

وأمعنت التأمل في الصورة وأنا أرتج من شدة الغيظ والغضب.. إنها صورة محرجة تخيرها والد أحلام بخبث للضغط علي وابتزازي ، إنه محتاط لكل أمر ، ومصمم على تشويه صورتي أمام أحلام ، وقد توقع ألا تفلح معي سياسة الترغيب ، فابتكر وسيلة للترهيب.. يا له من طاغية حقير..

وكدت أنهض من فوري ، وأذهب إليه لأنشب أظافري في رقبته ، وأحطم جمجمته التي يطبخ فيها مؤامراته الدنيئة ، لكن صوت أمي عاد يناديني من خلف الباب ، لأرد على مكالمة هاتفية قد وردت للتو. رجوتها أن تعتذر عني ، لأني كنت في حالة نفسية لا تسمح لي بالحديث مع أحد ، فأخبرتني بأن المتحدث يقول بأنه صاحب الرسالة ، وأنه يريدني لأمر هام.. عبد الغني يطاردني في بيتي! يريد أن يعرف ردة فعلي على مفاجآته ، ويساومني عليها!.. القذر!!..

نقلت الهاتف إلى غرفتي خشية أن يلحظ انفعالي أحد ، أو يلتقط كلماتي ويفسرها على هواه ، فم أكن أدري بأية لهجة سأخاطب بها هذا الوغد!.. قلت له وأنا أتميز من الغيظ:
ـ كان بإمكانك أن ترفضني دون اللجوء إلى هذه الأساليب القذرة التي لا تقدم عليها إلا عصابات المافيا وحثالات البشر.

ضحك ضحكة تفيض بالتشفي ، وقال بصوت هادئ ، وكأنه يمارس لعبة مسلية:
ـ أنت يا عزيزي لم تترك لي خيارا ، لقد اختطفت قلب البنت وإرادتها ، ولعبت برأسها حتى جعلتها تتحداني ، وتفرض علي رغبتها ، التي هي في الحقيقة رغبتك.
ـ لماذا تتصور أن أحلام خاضعة لتأثير مني؟ لماذا لا تريد أن تقتنع بأنها تعبر عن رأيها ورغبتها الخالصة؟!.

قال بلهجة في أميل إلى الجد:
ـ دعك من هذا الكلام ، واستمع لما سأقوله لك ، أنت في ورطة جديدة وعليك أن تواجهها ، وأنا على استعداد برغم كل ما بدر نحوي منك.

لم أفهم ما يتحدث عنه ، لكني لم أعد أستغرب منه أية مفاجأة ، فقد وصل هذا الرجل المريض في تصرفاته معي إلى أسفل الدرك.

قال عبد الغني وهو يتظاهر بالبراءة:
ـ سوسو تدعي..
ـ من سوسو؟
ـ سوسو.. ألا تعرفها؟.. إنها الفتاة التي قبلتها في غرفة الاجتماعات.
ـ آه.. سوسو.. تلك السكرتيرة الساقطة التي أمرتها أن تمارس معي لعبتها الدنيئة.

قال متظارهرا بالبراءة والحياد:
ـ الأمر يا عزيزي لم يعد لعبة.. سوسو تدعي أنك قد اغتصبتها بعد أن وعدتها بالزواج ، وهي تزمع أن تشكو إلى العدالة ، وسوف تقدم صورتك معها دليلا على أيام الغرام والهيام التي قضيتماها معا!.

لم أعد أتمالك أعصابي ، صرت أرغو وأزبد على الهاتف ، أسب وأشتم وألعن ، وألوح بقبضتي الثائرة ، وألكم بها الهواء.. لم أكن أتوقع أن في هذا العالم بشر منحطون إلى هذه الدرجة.. لأول مرة في حياتي أرتطم بالقاع ، وأغوص في أوحاله القذرة.. لأول مرة أقع فريسة للذئاب البشرية التي تعبث في حياتنا ظلما وفسادا.. وهرعت أمي إلى الغرفة تطرق الباب لتعرف سبب ثورتي وغضبي ، لكني لم أستجب لطرقاتها.. من حسن حظي أنه لا يوجد في بيتنا سوى جهاز هاتف واحد ، وإلا لاستطاعت والدتي أن تفهم طرفا مما جرى ويجري..

قال الذئب عبد الغني في هدوء مثير ، بعد أن استمع إلى حديثي الغاضب بغير اكتراث:
ـ إذا وعدتني بأنك ستبتعد عن طريق أحلام ، فسأعدك بأني سأمنع سوسو من تقديم الصورة للعدالة.

قلت وأنا ألهث من حدة الانفعال:
ـ يؤسفني أن يتصرف رجل أعمال بارز مثلك بهذا الأسلوب الرخيص.
ـ الغاية تبرر الوسيلة ، أنا لا أريد أن أخسر ابنتي.

قلت وأنا أحاول استعادة هدوئي:
ـ وهل تخسر ابنتك عندما تسمح له بالزواج من الشاب الذي اختارته بكامل إرادتها؟!
ـ ابنتي مازالت ساذجة ، طيبة أكثر من اللازم ، ومن واجبي أن أحميها.
ـ ابنتك فتاة ناضجة أكثر مما تظن.. وهي إنسانة ذكية وواعية ، وتحمل مؤهلا ثقافيا عاليا ، وليست صغيرة حتى تعالج زواجها بهذه الطريقة المؤسفة.

ضحك بنفس الهدوء المثير الذي بدأ حديثه به معي ، وقال كالشامت:
ـ الثقافة والشهادة ، لا تعني الوعي والإدراك دائما ، ها أنت مثقف مثلها ، ووقعت ضحية فخ بسيط.

صككت أسناني بعنف ، وزفرت ألما وغيظا ، وقلت:
ـ في هذه معك حق ، لم يخطر ببالي أن في البشر من يتصرفون مثلك!..
ـ أكثر الناس يتصرفون مثلي ، لكن ، لكل طريقته.. ألم تسمع عن توظيف نقاط الضعف؟
ـ تقصد صناعة نقاط الضعف.
ـ هذه قواعد اللعبة.. إذا لم يكن لخصمك نقطة ضعف تمسكه منها ، فحاول أن تجره إلى موقف ضعف تستعمله لصالحك.. ألم يعلموك يا دكتور أن الدنيا حرب وصراع..

قلت وقد بلغ بي الغيظ منتهاه:
ـ حتى الحرب لها أخلاق.. يا سعادة الإمبراطور.

صمت برهة أوحت لي بأنه يبتسم.. لكلمة إمبراطور وقع خاص في نفسه ، ولم يلبث أن قال:
ـ إني أحذرك للمرة الأخيرة ، الأفضل لك أن تبتعد عن أحلام ، وإلا سأشوه صورتك أمامها ، وأجعلها تكرهك للأبد.. أنت تدرك كيف تكون ردة فعل أحلام ، عندما تعرف أنك كنت عشيقا لمومس.
ـ المومس سكرتيرتك ، ويمكن إثبات ذلك بسهولة ، واكتشاف دورك الرخيص في هذه اللعبة.

ضحك عبد الغني.. ضحك طويلا ، وقال:
ـ ألم أقل لك بأنك ساذج؟.. هل تتصور أني يمكن أن أستخدم أشخاصا تستطيع أن تصل إليهم؟.. سوسو يا عزيزي ليست سكرتيرتي ، إنها امرأة غريبة تتجر بجسدها ، وتخلص لمن يدفع لها أكثر.. وقد دفعت لها أجرا مجزيا لم تكن تحلم به ، فسلمتني مقابل ذلك قيادها ، لأحركها كيفما أشاء.. المال يا دكتور كجهاز التحكم عن بعد.. يحرك لك الناس كيفما تريد ، وكلما كان المال سخيا كلما كانت دائرة التحكم أوسع.. لأول مرة أمنح خلاصة تجاربي للآخرين.. علك تصحو وتتعظ..

ثم عاد إلى الضحك ، فوصلت ضحكاته إلى سمعي كقهقهات شيطان..

قلت وأنا أكابد شعورا بالغثيان:
ـ لا أصدق!.. أيكون فينا من هم بمثل دناءتك وبشاعتك؟!..
ـ سأسامحك على كل هذه الإساءات إذا ابتعدت عن أحلام..
ـ الآن عرفت لماذا نحن أمة مقهورة!.

قال غير عابئ بما سمع:
ـ ماذا قلت؟ هل ستبتعد عن أحلام؟
ـ لأول مرة في حياتي أتمنى لو كنت كاتبا متمرسا حتى أعريك وأعري أمثالك ، ليعرف الناي أية ذئاب تلك التي تتخفى بجلود البشر!..
ـ كن ما شئت ، وابتعد عن أحلام.
ـ لكني أحبها.. ألا تعرف معنى الحب؟!..
ـ أنت لا تحبها.. أنت تحب ثروتها.. أنت طامع في ثروتي التي ستؤول إليها..
ـ لو كنت طامعا بثروتك الكريهة ، لرضيت بعرضك هذا الصباح.
ـ من يفكر بثروة كأحلام لا تشبعه مئة ألف..
ـ لماذا تعتقد بأن كل من يفكر بأحلام طامع في ثروتها؟!..
ـ عندما يتقدم من أحلام غني شبعان مثلي ، سأقتنع بأنه قد جاء رغبة بالزواج منها ، وليس طمعا بثروتها!.
ـ أنت تبحث إذن عن صفقة تبيع فيها أحلام.

قال وقد نفذ صبره:
ـ لقد أضعت وقتي بما فيه الكفاية.. أنت الآن أمام خيارين.. إما أن تنسحب من حياة أحلام ، أو تركب رأسك ، فتخسر سمعتك أمامها وأمام المجتمع.. أنت تعرف كم هي سمعة الطبيب مهمة أمام الناس الذين يأتمنونه على أسرارهم وأعراضهم!..
ـ هذا ابتزاز رخيص.
ـ أريد أن أسمع قرارك قبل أن أغلق السماعة.
ـ أنت أدنأ إنسان قابلته في حياتي.
ـ إذا لم تفصح عن قرارك خلال ثلاثين ثانية ، فسأقوم بحماية ابنتي منك بالوسائل المناسبة..

كدت أغلق السماعة في وجهه إعلانا عن رفضي لهذا الابتزاز الرخيص ، لكني أصبت بالجبن.. إنه طاغية عات يعني ما يقول ، ولن يتوانى عن دفع مومسته المرتزقة لتقدم شكواها ، وتلطخ سمعتي بأكاذيبها الملفقة.. والناس للأسف يحفظون الحكايات السيئة بسرعة ، ولا يتثبتون منها ، والألسنة المريضة تبحث عن قصة تثرثر بها.. سيلتصق اسمي بأذهان الناس كطبيب فاسد ، وسيمسي مستقبلي الطبي على كف عفريت.. حتى لو كافحت وأظهرت براءتي ، فلن أجد من يحفل بهذه البراءة ، أو يذكرها أمام الناس الذين أساؤوا بي الظن.. ووجدتني مضطرا للانحناء أمام العاصفة ، ولو إلى حين ، ريثما أمتلك وسائل الدفاع عن نفسي أمام ابتزاز والد أحلام ، وضغوطه الظالمة..

ومضت الثواني الثلاثون ، فقال عبد الغني:
ـ يبدو أنك تبحث عن المتاعب.

همست في يأس:
ـ لا.. لا داعي.. لا داعي للمتاعب.
ـ سأخبرها بأنك لم تأت لمقابلتي في الموعد المحدد.
ـ لماذا؟

ـ اخترع لها ما شئت من الأسباب ، المهم أن تبتعد عنها...

ثم صفق السماعة في لؤم ، فصفع صوتها سمعي ، وزاد من شعوري بالهزيمة.. ولأول مرة في حياتي بكيت بمرارة.. بكيت كما يبكي الأطفال.. أحسست بالذل والهوان.. فقدت احترامي لنفسي.. اهتزت ثقتي بالعالم ، احتضرت داخلي كل الأحلام والآمال ، فتكاثف الشؤم ، وألقى بظله الأسود على كل شيء ، لن تخدعني المظاهر بعد الآن ، لن تخدرني البشاشة التي يلقاني بها الناس ، الأقنعة التي يرتدونها لن تنجح في اصطياد ثقتي..

وتمددت فوق سريري كالميت ، أحملق بنظراتي الذاهلة في السقف الأبيض الناصع..

كم تحوي أيها السقف تحت طلائك الجميل من بشاعة!..


۞ الفصل الثالث  والعشرون ۞

لا أذكر أني قضيت ليلة أطول من تلك الليلة!.. قضيتها مؤرقا مسهدا ، تتناوشني الأفكار والهواجس ، وتعتصرني مرارة العجز والهزيمة... وأعلنت حواسي استنفارا شاملا ، فلم يغمض لي جفن ، أو يهدأ لي فكر.. وجلدتني نفسي بقسوة ، فألهبتني بسياط اللوم والتأنيب.. وبدت لي كل المثاليات التي أحملها كفقاعات متهافتة من الهواء.. تراها جميلة براقة تسبح برشاقة وانسياب ، لكنها تنفجر عند أول صدمة.. تتلاشى ، وتمحى ، وكأنها لم تكن..
وعاث الشك في أعماقي كمارد أحمق ، يحطم كل الصور الحبيبة إلى نفسي ، ليبحث تحتها عن الزيف والبشاعة التي قد تخفيها ، وامتدت يد هذا المارد إلى أقرب الناي إلي ، فأنشب أظافره في وجوههم ليختبرها ، ويتأكد من أنها وجوه حقيقة أصلية ، وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديه والد أحلام..
وشعرت أن العالم داخلي يتداعي وينهار ، فيسحق تحته كل الأمثلة الطيبة التي كنت أرنو إليها باحترام ، بيد أن أحلام وقفت فوق أنقاض هذا العالم المتداعي كالمنارة ، تشع طهرا ونقاء ، فلم يجرؤ مارد الشك أن يمد يده إليها أو أن يخترق هالة الطهر والوضاءة التي تحف بها ، وطفق يدور حولها مبهورا بنبلها ووضاءتها ، يحيره ذلك الجوهر الكريم الذي يتوهج داخلها ، ويسطع بكل هذا الألق الفريد..
والتفت حول رقبتي ضفيرة غليظة من الأسئلة ، وراحت تضغط عليها بعنف ، حتى كادت تخنقني!.. كيف ستواجه أحلام؟.. ماذا ستقول لها؟.. كيف ستعتذر إليها؟... هل ستعترف لها بحبك وإذعانك للابتزاز؟.. أم ستخفي عنها ما حدث ، وتدعي بأنك لم تذهب لمقابلة أبيها في الموعد المقرر؟.. ستسألك ، لماذا ، فماذا سيكون الجواب؟ وكيف ستبرر لها هذا الادعاء؟... كيف ستصمد أمام عينيها وأنت تقرأ فيهما نعيك كرجل ، وكإنسان؟..
وانتبهت في هدأة الليل إلى شيء!.. أصخت السمع ، ثم تتبعت مصدر الصوت في قلق ، فقادني الصوت إلى غرفة الجلوس ، كانت أمي تجلس وحيدة في ركن الغرفة تغلب البكاء.. أضأت النور ، فأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، قلت لها ، وقد أثر بي منظرها الباكي ، وزادني ألما على ألم:
ـ أماه.. لماذا تبكين؟..
أجابت بصوت متهدج خنقته العبرات:
ـ وهل تريدني أن أضحك؟.. تأتي إلى البيت واجما حزينا ، ثم تغلق عليك الباب.. أسألك أن تصارحني بما يشغل بالك ، فتأبى.. أدعوك إلى طعام الغداء ، فتعتذر بفظاظة.. آتيك بالطعام إلى غرفتك فتضرب عنه.. تقضي الوقت في الغرفة وأنت تحملق في الجدران كالممسوس.. تريدني أن أرى كل هذا ولا أبكي؟!..
تناولت راحتها بين يدي ، وطبعت على ظاهر كفها قبلة اعتذار.
قلت في تأثر:
ـ أماه.. أنت تبالغين في فهم الأمور.. لا شيء يدعو للقلق.. قومي فاخلدي للنوم.
ـ لن أنام حتى أعرف ما الذي يشغلك؟
ـ قلت لك لا شيء..
ـ أنت تكذب!..
ـ أماه!..
ـ أنت تخفي عني أمرا عظيما لا يسر.
أطرقت في صمت.. تستطيع أن تخفي كل شيء عن الناس ، لكنك لا تستطيع أن تخفي شيئا عن الأم.. سيكتشف العلماء ذات يوم حاسة جديدة تدعى حاسة الأمومة ، وسيجدون عليها ألف برهان.. قلت لها بنبرة مستسلمة:
ـ لا أنكر أني قد تعرضت اليوم لتجربة مؤلمة ، لكني لا أجد ضرورة للحديث عنها.. الحديث فيها يؤلمني أكثر ، وأنت لا تريدين لي المزيد من الألم.
هدأت قليلا ، وقالت:
ـ أتخبرني بما يشغلك فيما بعد؟
ـ ستعرفين يوما كل شيء.
ـ مازلت قلقة عليك!.
ـ ألا تثقين بقدرة ابنك على مواجهة الأزمات؟
صمتت ولم تجب!.... بدت كأنها ليست واثقة!... عذبني صمتها ، إنها تعرف أن ابنها ضعيف!... أطرقت في حياء ، قالت بعد تفكر:
ـ أمازلت تفكر في أحلام؟
مس هذا السؤال فؤادي المجروح كذرات من الملح ، فالتهبت آلامه من جديد ، قلت وأنا أتهرب من نظرتها:
ـ أحلام كانت فكرة ، والأمر لم ينضج بعد.
ـ أنت تحبها أليس كذلك؟
ـ هذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر..
صمتت ثانية ، وقد أدركت أن صدري مغلق أمام محاولاتها لاكتشاف سري ، ومداواة جرحي.. قالت بعد تأمل حزين:
ـ إذا كنت مصرا على الزواج من أحلام ، فأنا يمستعدة لبيع الأرض التي ورثتها عن والدي ،لتؤمن لها المستوى المادي الذي يليق بها..
رنوت إليها في ود وفخر.. كم هو الفارق بين إنسان يضحي بكل ما يملك من أجل سعادة ولده ، وبين إنسان يضحي بسعادة ولده من أجل ما يملك!..
كم هو الفرق هائل وبعيد!!..


۞ الفصل الرابع والعشرون ۞


استقبلت صباح اليوم التالي برهبة ، كنت مشفقا من لقاء أحلام ، وترددت!.. هل أذهب إلى المستشفى أم أبقى؟ هل أقدم على مواجهة الموقف أو أحجم؟ كان السهر والأرق والسهاد قد تراكم على أعصابي فأرهقها. وسرى الوهن في جسدي كالداء ، فوجدت فيه ذريعة للهروب.
اتصلت بالمستشفى لأطلب إجازة ، فأخبروني بأن الدكتور مأمون يحضر لعملية مهمة وقد طلب من جميع الأطباء أن يكونوا حوله في غرفة العمليات ليطلعوا على الحالة الجديدة ، ويتعرفوا على التقنية الجراحية التي سيستخدمها... لم يكن أمامي مفر من الذهاب ، فالدكتور مأمون يغفر كل شيء في العمل إلا الغياب عن مثل هذه العمليات!.
وذهبت. دلفت إلى المستشفى متثاقلا أقدم رجلا وأؤخر أخرى ، خفق قلبي وأنا أصافح الوجوه بنظرات حذرة.. ماذا لو ظهرت أحلام أمامي فجأة؟ وبأي وجه سأقابلها؟ ورقيت في الدرج كالخائف ، ثم تسللت إلى غرفة الأطباء المقيمين. كان هاني يهندس شاربه الكث أمام المرآة.. ألقيت عليه تحية الصباح ، فرد علي خياله المنعكس على المرآة ، جلست على حافة السرير كالهدود ، وأخذتني سنة من الشرود.. التفت إلي هاني فجأة ، وقد لحظ وجومي عبر المرآة ، قال باهتمام:
ـ صلاح.. ما بك؟
ـ لا شيء..
ـ أنت حزين!
تكلفت بابتسامة واهنة وقلت متظاهرا بالإنكار:
ـ أنا؟
ـ نعم.. أنت لست على ما يرام..
ـ متعب قليلا.. لم أنم جيدا هذه الليلة.
عاد إلى مرآته ، وراح يشد أزرار ردائه الأبيض إلى عراها بإحكام.. قال وهو يتأكد من سلامة هندامه:
ـ هو الأرق إذن..
أومأت بالإيجاب ، ونهضت إلى خزانتي لأرتدي ثوب العمل.. أردف هاني وهو يدس جهاز الإنذار في جيب ردائه المكوي بعناية:
ـ أرق المفلس أم أرق العاشق؟
ـ بل أرق المفجوع!
ـ بمن؟
ـ بهذا العالم..
ضحك هاني ، وقال:
ـ يا مسكين.. سيظل هذا العالم جاثما فوق صدرك حتى يسحقك تحته ، كفاك تفكيرا بهذا العالم ، والتفت لنفسك.. روح عنها بعض الشيء ، وانج بها من الأرق والقلق.. روضها على عدم الاكتراث.. افعل مثلي ، فأنا لم يعد يهزني شيء..
وكان يهم بالخروج ، فتوقف فجأة وهو يراني مازلت غارقا في همومي لا أحفل بتعليقاته الساخرة.. قال ناصحا:
ـ لا تنسى أن تزين وجهك بابتسامة قبل أن تنزل ، فمنظرك المقطب قد يصيب المرضى بالاكتئاب.
ثم دس يده في جيبه ، ومضى وهو يصفر في مرح.
مازالت أعصابي مشدودة إلى لحظات المواجهة.. تمنيت لو أن الأرض تنشق وتبتلعني ، ولا تراني أحلام.. كم سأبدو في نظرها تافها وضعيفا!.... سأبدو أخرقا مترددا لا يملك أن يأتي بقرار ، وسأبدو وغدا كريها لا يحترم مشاعر الآخرين..
ورن جرس الهاتف ، فرفعت السماعة بيد ثقيلة ، كان هاني على الطرف الآخر..
ـ صلاح.. نسيت أن أخبرك.
ـ ماذا؟
ـ الدكتور مأمون يريدنا في غرفة العمليات.
ـ أعلم.
ـ أسرع إذن.. لقد دخل الآن..
وهرعت إلى جناح العمليات كجندي جبان يحب الحرية ، ويهاب الموت!.. غسلت يدي بالصابون ، وارتديت الملابس المعقمة الخاصة بغرفة العمليات ، ثم أحكمت وضع القناع الطبي فوق أنفي... شعرت بشيء من الارتياح لأن هذا القناع سيخفي تحته تعابير وجهي المقطبة.
وانضممت إلى زملائي الأطباء الذي التفوا حول الدكتور مأمون في غرفة العمليات.. لم أجرؤ في البداية على رفع نظراتي لأطوف بها على وجوه الزملاء ، خشية أن تلتقي بأحلام! أخذت مكاني في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمني ، وركزت بصري على جسد المريض الممدد أمامي بانتظار مبضع الجراح.. لكن الدكتور مأمون لم يرحمني.. قال مداعبا:
ـ أراك اليوم في ذيل القافلة يا دكتور صلاح.. عهدي بك دائما الأول!.
وأردف هاني في محاولة ماكرة لإحراجي:
ـ لقد أخرتنا يا دكتور صلاح.. منذ متى ونحن ننتظر!..
ضحك الجميع لدعابة هاني ، بينما قال الدكتور مأمون لهاني مازحا:
ـ اسكت أنت.. دائما تحب الاصطياد في الماء العكر.
ـ ظننتك ستمنحني مكافأة!..
ـ لماذا؟
ـ لأني أول من حضر اليوم إلى غرف العمليات..
ـ ستنال مكافأتك في الحال..
ـ أرجو أن تكون مجزية..
ـ ستقوم بتجفيف الدماء أثناء إجراء العملية.
ابتسمت لهذا التكليف الذي لا يخلو من دعابة ، بينما ضحك الآخرون ، المعروف عن هاني أنه يؤثر الراحة ، وكثيرا ما كان يتقصد التأخر عن مثل هذه العلميات ، حتى تكون الأدوار قد وزعت ، فيكتفي بالمشاهدة ، وبدأت المجزرة كما يسميها هاني عادة ، فأغمد الدكتور مأمون حافة مقبضه الحادة في بطن المريض ، وأخذ يفتح به مدخلا إلى أحشائه المصابة.. انتهزت فرصة انشغال الجميع بما يجري ، فاختلست إلى أحلام نظرة متسللة ، لكنها ضبطت نظرتي الجبانة وهي تزحف إلى وجهها الشاحب ، سربلني منظرها الشجي بلهيب الأسى والغم ، وقرأت في عينيها لوما موجعا ، وعتبا مريرا لم أصمد له ، فنكست بصري وتظاهرت بالانشغال..

وفرغ الدكتور مأمون من جراحته ، فغادرت المكان على عجل ، ولذت بمقصف العم درويش.. جلست مرهقا منهكا كالمحموم ، تطاردني النظرات اللوامة التي سددتها إلي أحلام.
وجاء العم درويش يسألني عما أشتهي ، فطلبت فنجانا من القهوة ، فخف لإحضاره ، وقد لاحظ ما أنا فيه من ضيق.. ولم يلبث قلبي أن خفق وأنا أصغي لإيقاع خطوات أحلام ، وهي تدق الممر الطويل المفضي إلى الاستراحة.
وقفت أحلام أمامي في كبرياء وسألتني بنبرة صارمة:
ـ لماذا لم تحضر لمقابلة والدي بالأمس؟
انفجر سؤالها داخلي كقنبلة تتشظى بالمرارة ، لقد نفذ أبوها دورة بدقة ، وعلي أن أتم الفصل الثاني من المسرحية.
رجوتها أن تجلس ، لكنها كررت السؤال بنبرة أشد وطأة وإيلاما..
قلت لها متجاهلا سؤالها القاسي:
ـ ماذا تشربين؟
جلست وقالت:
ـ كان أولى بك أن تحزم أمرك قبل أن أضرب لك موعدا مع أبي.
كدت أنفجر أمامها ضاحكا ، وأدلي لها بكل ما كان ، فأعري أبيها الماكر ، لكني تذكرت العواقب المحتملة ، فضعفت ، وتنهدت:
ـ أحلام... يبدو أننا لم نخلق لبعضنا..
دمعت عيناها وقالت:
ـ الآن تقول هذا الكلام؟.. أبعد أن خضت مع أمي وأبي معركة من أجلك؟. هل أنا رخيصة عندك إلى هذا الحد؟.. لماذا هذا التردد؟.. ما الذي غير رأيك بهذه السرعة؟..
اخترقتني كلماتها كحزمة من الرماح ، تضاءلت أمامها وأحسست بالصغار.. قلت متهربا من نظراتها الثائرة:
ـ فكرت في أمر هذا الزواج ، فوجدت أنه لا يمكن أن يعيش!
ـ لماذا؟
ـ لدي أسبابي.
رمقتني بنظرات كسيرة ، وهمست:
ـ أنت تحكم علي بالعنوسة إلى الأبد..
ـ ستنسيني عما قريب.
همست بنبرة ترتعش:
ـ كيف تجرؤ على هذا الكلام؟..
ـ أنا عاجز عن القرار.. الآن ، على الأقل..
رفعت هامتها في كبرياء ، وقالت:
ـ أما أنا فقد اتخذت قراري.. إما أنت ، وإما لا..
هتفت في ضراعة:
ـ أحلام.. أحلام.. لا تكوني عنيدة ، لنتصرف بواقعية.. قد يكون ما بيننا أعمق وأروع ما يمكن أن ينشأ بين شاب وفتاة ، لكن العواطف شيء ، والواقع شيء آخر..
قالت في حدة:
ـ ما قيمة هذا الواقع إذا لم نعشه كما نريد؟.. إذا لم نصغه وفق قناعاتنا وأفكارنا؟..
ـ لكن هذه القناعات ستتبدل بعد الزواج.. بعد الزواج ستشعرين بالفرق بين حياتك معي والحياة التي كان يوفرها لك أبوك.. ستشعرين بأن الزواج قد حرمك من أشياء كثيرة ، وستفقدين حياة الرفاهية والنعومة التي تعودت عليها.. ستتراكم في نفسك مشاعر التأفف والملل ، وستشوه التفاصيل الصغيرة العلاقة الرومانسية الحالمة التي تجمعنا.. سنكتشف أنا خدعنا أنفسنا ونغرف في الندم.. لماذا لا نجنب أنفسنا هذه التجربة الفاشلة منذ الآن؟
حدجتني بنظرة قاسية وقالت:
ـ أنت تتحدث كوالدي تماما.. أصبحت تربط كل شيء بالمادة!.. ثمة شيء أجهله قد غيرك!!..
ـ كل ما في الأمر أني لم أصل إلى قرار..
أطرقت كاسفة حزينة وقالت في يأس:
ـ أنت لا تريدني.. نعم. لا تريدني.. كان يجب أن أفهم برودك نحوي منذ البداية.. ظننت ترددك خوفا وإشفاقا من أن أخذلك ، فشجعتك ومهدت لك الطريق ، فجاملتني دون أن تملك نحوي نفس الأحاسيس والمشاعر ، أنا الملامة على أية حال.. أستطيع الآن أن أتخذ قراري.. لن تجمعني الحياة بك بعد الآن ، ولن تجمعني برجل من بعدك.. الوداع...
ثم مضت... مضت غاضبة حزينة بعد أن زرعت نفسي بوجد عارم ، تمنيت أن ألحق بها لأبوح لها بالحب الذي يضطرم بين ضلوعي ، لكني لم أجرؤ.. فالبوح سيزيد موقفي تناقضا وغموضا!..
هل أدوس على قلبي وأرضخ للابتزاز ، أم أبدأ المعركة مع والد أحلام؟
ما أقسى أن تجد في طريقك سؤالا بلا جواب!.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة