ابحث في الويب




رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 28-30 



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء




۞ الفصل الثامن والعشرون ۞


اندفعت خلف نورا بقوة ، لاحقتها من شارع إلى شارع ، ومن حارة إلى حارة ، لكنها أفلتت مني ،
ضاعت خلف جدران المدينة ، ابتلعتها الأزقة الضيقة وغيبتها في جوفها المتخم بالأسرار ،
ووقفت عند مدخل أحد الأزقة حائرا يائسا مثقلا بالخيبة!.. كان الزقاق مقفرا وممتدا ، تدل نهايته المضيئة التي تلوح خلف أعشاش العتمة على أنه يفضي إلى شارع مزدحم ،
وترامى إلى سمعي صوت مذيع أجش يتلو نشرة أخبار ،
وقد اختلطت أخباره بجلبة أطفال يمرحون قبل أن يأووا إلى الفراش ،
أين ذهبتِ أيتها الظبية الشاردة التي امتزج الخوف والشك بدمها ،
فأصبحت تنفر من رائحة البشر ، وتخشى أطياف الرجال!...
وهويت على أحد الجدران بقبضة مشحونة بالغيظ.. أنت ثانية أيها الذئب الأنيق!..
أيها العاتي الذي يستوطن في حياتنا كالداء.. متى ترحل؟
متى يسقط عن وجهك القناع؟
واستبدت بي الحسرة ، لأني لم أستطع أن أعرف بقية المأساة التي عاشتها نورا وهي تحارب في المدينة وحيدة ،
تقاوم الذئاب والوحوش ، وتدافع عن نفسها بشجاعة المحارب الذي تكالب عليه الأعداء ،
ليكشروا مقاومته ، ويطفئوا عنفوانه ، ماذا كان علي لو اعتصمت بالصمت؟
لكن ما أدراني بأن ذكر عبد الغني الذهبي سيفزعها؟
أنت منهم! كلكم ذئاب!..
لكأنها تتحدث عن عصابة!!..
عن جيش من الوحوش!..
ترى؟.. ما علاقة عبد الغني الذهبي بكل هذا؟
أيمكن أن يكون هو الـ؟!.. عبد الغني الذهبي للمرة الثالثة بعد ما لا أدري من المرات ، يقف أمامي بطلا من أبطال الشر والقسوة على مسرح الواقع المريض..
وانفجر عبد الغني الذهبي داخلي كالسرطان الذي لا يزول إلا بالجراحة ،
استقر في أعماقي وجعا نابضا بالألم ، كالناسور الحاد ، وسولت لي نفسي باللجوء إلى العنف لأول مرة!.
إنه رجل يستحق القتل في كل الشرائع ، وما اكتشفته فيه من المساوئ يؤهله للموت خنقا أو رميا بالرصاص!... فكيف لو استطعت أن أحصي ما خفي من جرائمه ومكائده وآثامه؟..
إذن ، لاستحق القتل ألف مرة ومرة...
إذا كانت ابنته قد أدانته ، واكتشفت ظلمه وإجرامه وبشاعته ، فماذا بقي بعد؟..
إنه مجرم محترف ، وطاغية مستبد ، يستخف بأرواح الناس ومشاعرهم ،
ويستغل نفوذه وماله لتركيع البشر ، وإرغامهم على التنحي من طريقة ، إنه يمضي في الحياة كالديناصورات المتوحشة ،
كالبلدوزر الغبي الذي يدمر كل ما يقف في طريقه فيحوله إلى حطام!...
وركبتني فكرة مجنونة بقتل عبد الغني الذهبي!..
نعم ، قتله ، وإراحة الناس من آثامه وشروره..
لا يفل الحديد إلا الحديد ، والجزاء من جنس العمل ،
لابد من الردع في معالجة هذا الثعبان ، إنه عضو فاسد ،
ولابد له من البتر ، قبل أن يسري سمه الزعاف إلى أعضاء جديدة فيقتلها ،
الحق والعدل يقولان بأن القاتل يقتل ، وعبد الغني قاتل ، قتل الرجال والنساء والأطفال ، وتربع فوق جماجمهم...
وأفقت من أفكاري على هدير العقل وهو ينبثق في أغواري المدلهمة ، فيزجرني ويثنيني..
ـ تقتله؟!.. تقتله أيها المجنون؟!.. هذا ليس تصرفا حضاريا يليق بطبيب!...
ـ نعم إني أعترف.. العنف أسلوب همجي أرعن لا يليق بمثقف مثلي ، لكني إنسان قبل كل شيء!..
إنسان له عواطف ومشاعره ، لا يستطيع أن يقف ساكتا يشارك المجرم في جريمته بصمته وسكوته..
ـ الجأ إلى القانون..
ـ القانون!.. القانون حباله طويلة ،
وعبد الغني مجرم ذكي لا يترك خلفه أثرا يدل عليه ،
سيمر وقت طويل قبل أن تكتمل حلقة الاتهام حول رقبته الناعمة ،
الدليل الصارخ الوحيد بيد أحلام ، وأحلام ابنته ، مهما كان فهي ابنته ،
وليس من السهل أن تقف في وجه أبيها ،
إنها إنسانة من لحم ودم ، والإنسان لا يضحي بأبيه عادة مهما كان السبب قاهرا وقويا..
ـ إذا قتلته إذن ، فستخسر أحلام..
هل تريد أن تخسر أحلام؟..
ـ أحلام؟!.. سأخسرها على كل حال ، إنه يقف بيني وبينها بقسوة ،
ويلوح لي بالفضيحة التي لفقها وحبكها حولي..
حتى لو تحديته و بُحت لأحلام بكل ما كان ،
فلن يزداد إلا إصرارا وعنادا ، وقد يلجأ إلى أساليب جديدة أكثر دناءة وغدرا من الأسلوب الذي اتبعه لإبعادي عن ابنته..
إنه يقف بيننا كسور الصين ، وسيقف بيننا حيا وميتا ، فلأقتله وأريح العالم من شره..
ـ ستساق إلى السجن ، وتحاكم كقاتل ، وتنتهي مداناً ،
ألم تفكر في هذه النهاية يا دكتور؟
يجب أن تعترف بأنك تمضي باتجاه خطأ..
ـ لن أعترف ، ولن أرجع ، سأقضي عليه دون أن أترك خلفي أثرا يدل علي تماما..
بنفس الحرص والذكاء الذي يقضي بهما عبد الغني على ضحاياه..
رصاصة في الظلام..
رصاصة واحدة كفيلة بتفجير رأسه المحتقن بقيح المكر والخبث والخداع..
رصاصة واحدة تكفي لإيقاف كل هذه الجرائم والمآسي.. رصاصة واحدة وينتهي الظالم ، فينتصف المظلوم وتهدأ أرواح الضحايا..
ـ لكنه ليس ظالما واحدا!.. إنهم ظلاّم كثيرون ، فهل تكفي رصاصتك لهم جميعا؟..
ـ آه.. غلبتني أيها العقل.. رصاصة واحدة لا تكفي..
ولا ألف رصاصة..
إذا مات عبد الغني.. فلن يموت معه الباقون..
بل سيمكثون كالوباء.. يعيثون ويفسدون ويظلمون ويقتلون..
وسيحتاطون للرصاصة العادلة..
سيغطون وجوههم بأقنعة جديدة أكثر غموضا وجمالا من قناع الذهبي ،
قد تجدهم في ثياب المصلحين ، وقد تراهم في محاريب الصالحين ، قد يرتدون أسمال الفقراء الزاهدين ،
وقد يستشهدون بآيات من الذكر الحكيم..
نعم.. الظالمون الذين أخشاهم ليسوا جميعا واضحين ظاهرين!..
والأخطر من الظالمين.. المهندس الذي تواطأ مع عبد الغني على الغش في كميات المواد اللازمة لبناء العمارة ،
والمحاسب الذي زور شهادته من أجل تحقيق طموحاته في الشهرة والثراء..
والخائن الذي اشتراه عبد الغني ليسرق شهادة المحاسب من ملفات التحقيق ،
والمصور الذي استخدمه عبد الغني ليلتقط لي تلك الصورة المخجلة.. مقابل مبلغ من المال ،
والغانية الداعرة التي مثلت علي دورها بإتقان ، وقبضت ثمنه خاتما من الذهب أو عقدا من اللؤلؤ..
نعم.. الظالمون كثيرون ، والأرض بحاجة إلى طوفان جديد كطوفان نوح ،
يطهرها من الظلم والفساد ويعقم العالم من لوثة المادة ، التي أحالت القلوب إلى حجارة ،
صدقت أيها العقل.. عبد الغني ليس هو المشكلة..
المشكلة في الضمير الغائب ، والتربية الفاسدة ، والحب المفقود.. المشكلة في الوثنية الجديدة التي تجتاحنا كالوباء.. في العبودية للدرهم والدينار..
المال هو الذي منح عبد الغني قوته وسطوته وقدرته على الظلم ،
وعبدة المال من أصحاب النفوس الخائرة الضعيفة هم الأيادي التي يبطش بها عبد الغني وأمثاله..
لقد كثر في حياتنا المرتزقة والانتهازيون ، وارتفع صوت الذهب فأعمى بريقه العيون..
وعدت أدراجي إلى المركز الثقافي يحدوني الحنين إلى أحلام..
كنت في حاجة إليها لتغسلني من أحزاني ،
وتمنحني فرحا جيدا يبدد بعض الشجن الذي زرعته في نفسي مأساة نورا المسكينة ،
ومضيت إلى قاعة المعارض بخطوات لهفى ، وما إن دلفت إليها حتى التقت عيناي بعيني الذئب الأنيق عبد الغني..
هذا الرجل البغيض يطاردني في الحلم واليقظة!..
يقف في طريقي أنى ذهبت!..
متى تسقط أوراقك أيها الخريف؟!..

۞ الفصل التاسع و العشرون ۞


ـ أنت الدكتور صلاح الحكيم؟..
ـ نعم ، هل من خدمة؟..
ـ تفضل معنا..
ـ أنا؟..
ـ ألست الدكتور صلاح الحكيم؟..
ـ نعم ، ولكن.....
ـ أرجو أن تمضي معنا بهدوء ، معنا أمر بالقبض عليك..
مادت بي الأرض ، وسحقتني المفاجأة تحت وقعها الثقيل..
يا لهذا الصباح الأسود!..
أأساق إلى السجن كالمجرمين؟...
ونظرت حولي في جنون ،
رجال الأمن ينتشرون في باحة المستشفى وحديقته حسب خطة مدروسة ،
وها هي حلقتهم تضيق حولي ، لتحبط أمامي كل محاولة للهرب!
لكأنهم يحاصرون قاتلا محترفا من رجال العصابات المنظمة!.. وأطلت الوجوه من النوافذ والأبواب ذاهلة مستغربة..
الأطباء والممرضات والموظفون..
ينظرون إلي في حيرة وكأن على رؤوسهم الطير..
لم يخطر ببالهم يوما أني يمكن أن آتي بفعل شائن يستحق تدخل رجال الشرطة!
أتكون هذه هي النهاية؟..
هزني هذا السؤال بعنف ،
فاعتراني شعور هائل بالظلم ،
ونفرت من عيني دمعة ساخنة تتلظى بلهب الأسى الذي انبثق في فؤادي كالطلقة!..
واندفع العم درويش نحوي كالملتاع ،
فحركت لهفته كوامن نفسي ، قال للضابط بلهجة متهدجة وشفتاه تختلجان :
ـ هناك خطأ يا حضرة الضابط.. هذا الدكتور صلاح.. أخبرني من تريد بالضبط.. وأنا أدلك عليه..
ابتسم الضابط ساخرا وقال:
ـ نريد الدكتور صلاح الحكيم..
نظر العم درويش إلي بعنين مغرورقتين ، وهو لا يكاد يصدق ، قلت مدافعا عن نفسي:
ـ إنهم يلوثون الأبرياء يا عم درويش..
حدجني الضابط بنظرة مؤنبة وأشار إلى أحد رجاله فاقترب مني وهو يحمل القيد الحديدي المهين ،
فأقفل إحدى حلقتيه حول معصمي ، وأقفل الأخرى حول معصمه ، ودعاني للمسير..
ومضيت معهم مطأطأ الرأس ، مكلوم الوجدان ،
تطاردني العيون بأسئلة كالسهام ، تريد لو تنكت لحمي لتعرف ما الذي يخفيه هذا الإرهاب تحته من أسرار!..
وألفيت هاني لدى الباب وهو يدلف بسيارته إلى باحة المستشفى ، فكبح فرامل سيارته فجأة ، وقد تسمرت يداه على المقود ،
وحطت نظراته علي في ذهول ، واستمر ينظر إلي برهة كمن أصابه مسٌّ ،
لكنه سرعان ما أفاق من ذهلته ، فترجل وأقبل نحوي مندهشا يتساءل:
ـ صلاح ، ماذا يجري؟
ـ كما ترى..
ـ لا أصدق..
ـ يجب أن تصدق كل شيء بعد الآن..
وسأل هاني الضابط بانفعال :
ـ ماذا فعل حتى تعتقلوه بهذه الصورة؟..
ـ هذا ليس من شأنك..
ـ أنا صديقه وأعرفه أكثر منكم..
ـ عندما سنحتاج إلى شهادتك سنستدعيك..
ـ كان بإمكانكم أن تعتقلوه بطريقة أفضل!..
ـ أرجو أن لا تعيقنا أكثر..
ـ أنتم لا تعرفون ماذا تفعلون؟ أنتم تشوهون صورة أنبل إنسان عرفته في حياتي..
نظر إليه الضابط مقطبا ، وقال بحده :
ـ اهتم بنفسك ، وتنح عن الطريق..
هتف هاني غاضبا :
ـ إهانة الدكتور صلاح إهانة لكل الأطباء..
رمقه الضابط في غيظ ، وقال في هدوء عاصف :
ـ إما أن تسكت ، أو تمضي معه..
أردف هاني غير عابئ بالتهديد :
ـ المتهم برئ حتى يدان ، والدستور لا يسمح بإهانة الأبرياء بهذه الصورة..
أثر بي إنفعال هاني ، لأول مرة أراه يتحدث بهذه الجرأة والحماس ، ورجوته أن يكف فقال لي بنبرة مشجعة :
ـ صلاح.. اطمئن.. سنثير القضية في نقابة الأطباء.. سنقيم الدنيا من أجلك..
أومأت له شاكرا ، ونظرت إلى الضابط مستسلما ، فمضى بنا موكب الاعتقال في هدوء ،
وأردف هاني وهو يشيعني بنظرات تفيض بالتعاطف والمواساة :
ـ صلاح.. لا تهتم.. كلنا معك..


۞ الفصل الثلاثون ۞


ـ انتظر هنا..
وغاب الضابط ساعة ثم عاد..
ـ تعال معي..
مضى أمامي بخطوات رشيقة ، فتبعته حانقا متأججا كمرجل وتحسست مكان القيد كمن ابتلي بالوسواس ،
مازلت أشعر به يلتف حول معصمي كالأفعى ،
رغم أن الجندي الطيب الذي أمر بإحكامه قد فكه منذ أن وصلنا إلى دائرة التحقيقات الجنائية ،
سيبقى أثرك القذر أيها القيد الظالم عالقا في يدي إلى الأبد..
يذكرني بالظلم الذي نال مني وأثخن نفسي بالجراح ، وصعد الضابط أمامي درجا بعد درج ،
وظل يرقى حتى وصل إلى الطابق الرابع ، فانعطف ذات اليمين وقادني إلى أقصى الممر ،
ثم دخل قاعة واسعة يقف ببابها حارسان..
ـ اجلس هنا..
جلست ، وأنا ألوك القلق المر ، والهواجس السوداء ، طرق الضابط باباً في صدر القاعة ، ثم دلف بهدوء ،
وأغلق خلفه ، شيء غامض لا أدري كنهه انبثق في صدري فجأة ، ومد ذراعه القوية كالأخطبوط ،
وراح يضغط بها على أنفاسي حتى كاد أن يزهقها ،
وشعرت بعجلة الحياة داخلي وهي تتباطأ حتى كادت تتوقف عن الدوران ،
وكأنها آلة انحسر عنها التيار الذي يمدها بالطاقة ،
ونهضت كغريق ينتشل نفسه من الماء بحثا عن دفقة هواء تمنحه الحياة ،
ورآني أحد الحارسين أنهض في حركة مفاجئة ، فتحفز للأمر ويده على قبضة مسدسه المتدلي فوق وركه الأيمن ،
وانضم إليه صاحبه في استنفاره الطارئ ، وجعلا يحدقان بنظرات متوجسة ترصد ما قد سآتي به من فعل ،
لكن نظراتهما الصارمة المتجهمة سرعان ما تراخت وهما يراياني أتنفس بعمق وأخفي وجهي خلف كفين متشنجتين ،
شدت الآلام أعصابها حتى كادت تمزقهما ، وتبادلا نظرة قال بعدها الأول :
ـ هل تشكو من شيء؟!..
نظرت إليه بعينين مغرورقتين تفيضان ألما واستعلاء على أدنى مساعدة ،
ثم تهالكت في مكاني مرهقا كئيبا أقاوم الظلمة التي شاعت داخلي كالعمى..
ولبثت كذلك دقائق قليلة خرج بعدها الضابط وهو يحمل رزمة من الأوراق ، ثم أقبل نحوي قائلا:
ـ سيستدعيك المحقق بعد قليل..
ـ أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟!..
ـ لا تستعجل.. ليس هناك ما يسر!
ـ أتعذبون الناس بالقلق؟..
رماني بنظرة ساخرة ، ثم مضى غير مكترث ، وتركني أغوص في قلقي حتى القاع..
ومر وقت ليس بالقصير ، استحضرت خلاله ذكريات الماضي والحاضر ،
وخنقت فيه كل الآمال دفعة واحدة ثم ألقيتها في وهدة عميقة من اليأس ،
وحدقت في الباب الموصد بنظرات متوقدة كالنار ، تريد لو تحرقه بلهيبها ،
لتعرف من هو المحقق الذي سيمسي مصيري في يده!..
وخرج المحقق.. أطل كالشمس المحرقة في ظهيرة آب..
نظراته صارمة ، ووجهه غارق في الجد ، أشار إلي بسبابته ،
ثم استدار متجها نحو مكتبه ، تقدمت خلفه بخطى وئيدة ، وكأني أخوض في حقل ألغام..
ـ تفضل..
جلس وجلست.. تفحصني بنظراته برهة ، ثم تناول سيكارة ، فأشعلها ،
وراح ينفث دخانها وهو صامت جامد يعيث بنظراته المرتابة في وجهي المربد..
أهلا وسهلا.. ماذا تريد مني أيها المحقق الأريب؟
خرج عن صمته أخيرا.. قال بنبرة مباغته:
ـ أنت قلق!..
ابتسمت ساخرا ، وتساءلت:
ـ كيف لا أقلق؟
ـ البريء لا يقلق؟
ـ في مجتمع يحترم الفرد ، لا يمكن للبريء أن يقلق..
ـ أأساء إليك أحد؟
ـ وهل تريد إساءة أكبر من أن أساق أمام الناس مكبلا وكأني قاتل أو قاطع طريق؟!
ـ من يدري؟ قد تكون قاتلا؟
أطاحت كلماته بتماسكي وهدوئي.. انفجرت من شدة الغيظ ، وهتفت في وجهه:
ـ لا أسمح لك بإهانتي كائنا من كنت! أنا مواطن شريف ، وأعرف حقوقي جيدا..
ابتسم كالهازئ ، وقال دون أن يهتز:
ـ كل الذين يجلسون مكانك يقولون كلامك..
الفرق الوحيد هو أني أحقق الآن مع متهم مثقف.. مع طبيب!
قلت ، وقد نفد صبري:
ـ أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟
ـ لا نعرفك من قبل حتى نمزح معك..
ـ ألا تريد أن تبدأ التحقيق؟
ـ ليس قبل أن تهدأ.
ـ سيدي الكريم أنا هادئ ، هادئ أكثر مما تتصور..
ـ ملامحك تقول غير هذا..
ـ لا أعتقد أني في نزهة..
ـ هل تعرف امرأة تدعى نورا ؟..
خفق قلبي بشدة!.. نورا؟..
لم يخطر ببالي أن اعتقالي بسبب نورا!..
أيمكن أن تكون نورا قد اتهمتني بشيء؟!..
وأجبت في قلق:
ـ نعم.. أعرفها..
ـ ما علاقتك بها؟
ـ علاقتي؟ لا علاقة لي بها!..
ـ كيف تعرفها إذن؟
ـ أعرف شكلها ، واسمها.. أعرف جزءا من قصتها لكن ، لا علاقة لي بها!..
ـ كيف عرفت قصتها..؟
ـ روتها لي..
ـ هل تصدق أن امرأة في الدنيا تروي قصة حياتها لإنسان لا تعرفه؟
ـ لا طبعا.. لكن..
ـ لكن ماذا؟..
لذت بالصمت هل أبوح للمحقق بقصة الطفلة اللقيطة؟
أم أحتفظ بسرها حتى أعرف نوع التهمة الموجهة إلي؟
ولم يترك لي المحقق فرصة للتفكير ، داهمني قائلا:
ـ صمتك لن يفيدك ، نحن نعرف كل شيء..
ـ كل شيء؟! مثل ماذا؟.
ـ نعرف أنك على علاقة مع نورا!
ـ علاقة!.. علاقة من أي نوع!!..
ـ علاقة جنسية طبعا..
ـ هذا غير صحيح..
ـ لا تنكر.. ثمة أدلة..؟
ـ أنت لا تملك أي دليل..
زفر سحابة جديدة من سيكارته ، ثم قال وهو يكتم لهيبها في قعر صحن السجائر:
ـ حسنا..
ثم أردف وهو يلقي إلي بصورة ملونة استلها من درجه على حين غرة :
ـ أليست هذه صورتك؟
بُهِتُّ وأنا أرى الصورة ، إنها صورتي أنا ونورا ،
عندما كنت جالسا أصغي إلى قصتها في المركز الثقافي!..
من هو الذي التقط هذه الصورة؟..
أيقف عبد الغني الذهبي خلف هذه الجريمة أيضا؟..
إني أشم رائحته النتنة من خلال الصورة!..
هذا أسلوبه في العمل.. التلفيق والتزوير والابتزاز!
ودفع إلي المحقق ورقة مطوية من أوراق الرسائل الملونة ، نظرت إليه في دهشة ،
ثم فتحت الرسالة فوجدت فيها كلمات مطبوعة على الآلة الكاتبة ، وأذهلني ما جاء فيها..
"
عزيزتي نورا ، سنلتقي الليلة في منتزه الغابة ، أرجو ألا تتأخري لأني أنتظرك على أحر من الجمر ،
حبيبك إلى الأبد الدكتور صلاح الحكيم.."
ولم أكد أنتهي من قراءة الرسالة الكاذبة ، حتى داهمني المحقق باتهام جديد ،
قال بنبرة صاعقة ، وكأنه يهوي على بالضربة القاضية:
ـ دكتور صلاح.. أنت متهم باغتصاب وقتل المغدورة نورا..
وقفت فجأة كمن قذفه بركان.. ثم هويت على الكرسي ككرة ملتهبة تدحرجت من شاهق ، همست بصوت واهن كالموت:
ـ أنا؟!!!....
هتف المحقق وهو يتابع هجومه دون رحمة:
ـ نعم اغتصبتها وضحكت عليها ، وعندما طالبتك بالزواج رفضت ،
ثم عمدت إلى قتلها حتى لا تفضح غلطتك وتهدد سمعتك البراقة التي تخدع بها الناس.. إياك أن تنكر..
همست وأنا أصارع مشاعر الصدمة بأعصاب عارية:
ـ هذا ليس صحيحا ، ولكن..
ـ كل الأدلة ضدك.. الصورة صورتك.. والرسالة تفضح طبيعة العلاقة التي كانت تجمعك بالقتيلة..
ـ ولكن متى قتلت؟..
ـ أجب ولا تراوغ..
ـ الصورة صورتي ، لكن الرسالة ملفقة!
ـ ما دليك؟.
ـ أنا لا أملك آلة كاتبة ، ولا أستعملها في تدوين رسائلي..
ـ لكنك تستطيع أن تحصل على آلة كاتبة بألف طريقة..
ـ ولماذا أطبع رسالة كهذه على الآلة الكاتبة؟..
ـ لتنفي نسبة الرسالة إليك.. فيما لو وقعت في يدنا.. وتدعي أنها ملفقة..
لذلك تجنبت أن تكتب الرسالة بخط يدك ، ولم تترك على ورقة الرسالة أية بصمات تدل عليك..
ـ أنت تبالغ في الاستنتاج..
ـ أنصحك بالاعتراف..
ـ الآن عرفت كم جلس مكاني من المظلومين!..
ـ إذا كنت بريئا ، فدافع عن نفسك..
ـ إليك دفاعي إذن ، وستعلم أني بريء مما تقول..
ورويت له قصة نورا من أولها إلى آخرها..
منذ أن جاءت خلف طفلتها إلى المستشفى لتطمئن عنها ، إلى أن ضاعت مني في أزقة المدينة..
وسألني المحقق عن السبب الذي جعلني أحزر اسم الشركة التي كانت تعمل فيها نورا دون أن تذكره لي
، فحدثته عن تجربتي المريرة مع عبد الغني الذهبي ،
وكيف عرض علي التواطؤ معه لتسويق أغذية فاسدة للأطفال ،
ما جعلني أشك في أنه هو نفسه الذي يقف وراء صفقة المحاقن الفاسدة التي حدثتني عنها نورا..
واستغرقت طويلا في تحليل شخصية الذئب الأنيق عبد الغني وأساليبه الملتوية ،
واتهمته بأنه وراء الصورة التي التقطت لي سرا ،
وأنا أجلس مع نورا في المركز الثقافي ،
وأبديت شكوكي في أن عبد الغني الذهبي يقف وراء حادثة مقتل نورا بشكل أو بآخر ،
لكني لم أجرؤ على إبلاغ المحقق بما حدثتني به أحلام عن ضلوع أبيها في حادثة العمارة المنهارة ،
احتراما لمشاعرها ، وصونا للسر الذي باحت لي به دون سائر الناس..
وكان المحقق قد استدعى كاتبا ليسجل اعترافاتي ، فدون أقوالي حرفا حرفا ،
وعندما انتهيت من الحديث رفع الرجل رأسه في إعياء ،
وبسط يده فوق الأوراق ليريحها من عناء الكتابة المتلاحقة ، فقد كان حديثي مسهبا وطويلا..
ورانت فترة من الصمت كان المحقق خلالها غارقا في خواطره..
بدت لي ملامحه وكأنها تبعث على الارتياح ،
وقد يكون ذلك لأني تخففت من بعض الأسرار التي كانت تؤرق صدري ،
أو لعل المحقق قد عاد إلى طبيعته بعد أن مثَّل دور الهجوم ليفتت صمتي ،
ويدفعني للانهيار أمام اتهامه السافر ، فأعترف بالحقيقة ،
لكنه الآن ، بعد أن سمع مني كل هذه التفاصيل ،
لابد أنه يحاول فرز الخيوط المتشابكة ، ليصل إلى الخيط الذي يوصله إلى الحقيقة..
نهض المحقق فجأة ودار حول كرسيه ،
ثم قال يملي على الكاتب وهو يستند بكلتا يديه على الكرسي:
ـ هذا ، وقد تقرر إجراء تحقيق عاجل مع مديرة ملجأ الحنان للأيتام ،
حيث نظن بأنها تملك معلومات هامة حول المجني عليها
ـ نورا سنديان ـ
التي اكتشفت جثتها فجر هذا اليوم المدون تاريخه أعلاه..
ثم رفع المحقق سماعة الهاتف واستدعى أحد معاونيه ،
وطلب منه أن يرافقه في زيارة إلى ملجأ الأيتام..
هتفت وأنا أرى المحقق ينطلق بحماس:
ـ وأنا؟
نظر إلي متفكرا ، ثم قال بنبرة حاسمة:
ـ تعال معي..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة