ابحث في الويب


رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 16-18 



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء





۞ الفصل السادس عشر۞

ضحكت أحلام عندما حدثتها عن الحلم الذي شاهدته في الليلة السابقة ، وقالت:
ـ هذا الحلم يصلح لأن يكون مسرحية أو فلما ، ينبه الناس إلى أخطار ممارساتهم الخاطئة مع الأطفال..
قلت وأنا أمضي معها خارجين من غرفة العلميات:
ـ يقولون بأن الأحلام مصدر من المصادر التي يعتمد عليها الكاتب في إثراء خياله..
هتفت أحلام في حماس وهي تقف قليلا:
ـ أما أنا فقد أثار حلمك في خيالي موضوع لوحة رائعة..
ثم تابعت وهي تمضي:
ـ سوف أذهب اليوم لأرسم الأطفال المجنحين وهم يحلقون فوق رؤوس البشر ، ويرفرفون بأجنحتهم كالعصافير.. وسأرسم القاضي الصغير وهو يقف فوق غيمة العدالة ، ويرمق البشر بنظرات صارمة فيها عتاب الطفولة وآلامها ممزوجة بالاتهام الصارخ للآباء الذين شوهوا أرواح الأبناء..
تذكرت الغموض الذي لاحظته في حديث الأستاذ سعيد عن والد أحلام ، قلت في تردد:
ـ ثمة سؤال يراودني ، لكني أشعر بالحرج في طرحه عليك..
تضاحكت وقالت:
ـ اسأل ما بدا لك..
ـ هل كان الأستاذ سعيد حقا صديقا لوالدك؟..
فاجأها السؤال ، أطرقت قليلا ، ثم قالت وهي تعبث بسماعتها الطبية المتدلية على صدرها كالقلادة:
ـ هل قال لك شيئا؟
ـ في الحقيقة لم يكن الوقت يتسع للحديث ، لكني لاحظت على وجهيكما وجوما غامضا ، عندما عرَّفت ُ كلا منكما على الآخر!..
تنهدت وقالت:
ـ تلك قصة قديمة..
ـ يبدو لي أن الحديث في هذا الأمر لا يريحك!..
ـ صدقت..
ـ لا داعي إذن للخوض فيه..
ـ هل تقبل دعوتي إلى فنجان شاي؟..
ـ بكل سرور..
شعرت بأني قد تطفلت على أحلام ، واقتحمت بسؤالي حياتها الخاصة ، فندمت على تسرعي وفضولي ، وقدرت أن دعوتها لي ما هي إلا تهرب لبق من الجواب..
ووصلنا إلى مقصف العم درويش ، فرحب بنا في استراحته ، وسألنا عما نشتهي ، فطلبت أحلام منه أن يحضر لنا فنجانين من الشاي المعطر بنكهة النعناع ، ثم اختارت ركنا قريبا من النافذة ، وجلست ساهمة حزينة تكتسي نظراتها بكآبه عميقة..
جلست وأنا أكابد شعورا بالذنب ، فلم أكن أعلم أن سؤالي سيعكر صفوها إلى هذا الحد..
وأدركت أن في الأمر سرا مؤلما لا ينبغي لي نبشه ، ووجدت من واجبي أن أخرج أحلام من الجو الذي وضعتها فيه ، قلت وأنا أرسل نظراتي من النافذة إلى حديقة المستشفى:
ـ الحديقة تزداد جمالا ، بعد أن خلع عليها الربيع فتنته..
نظرت أحلام إلى الحديقة ، وأطالت النظر ، وهي تتأمل قمم الأشجار وأحواض الزهور ، ثم لملمت نظراتها الكئيبة ، وألقتها نحوي متوهجة بالحزن ، وقالت بنبرة هادئة عميقة:
ـ منذ سبعة عشر عاما تقريبا ، انهارت عمارة سكنية فوق رؤوس ساكنيها ، وذهب ضحية لهذا الحادث ستة أطفال ، وتسع نسوة ورجل واحد ، هذا غير الذي أعيقوا أو تشوهوا.. من حسن الحظ أن العمارة لم تكن مكتظة بالسكان ، فقد سقطت أثناء النهار ، حيث كان معظم السكان خارجها ، منصرفين إلى شؤونهم في أماكن العمل والدارسة والتسوق.. لكنها كانت كارثة على كل حال..
هل تعرف من هو المقاول الذي قام ببناء هذه العمارة؟..
لم أجب ، ولم أفهم مناسبة هذا الحديث الغامض عن العمارة المنهارة!.. تركتها تتابع الحديث بانتظار معرفة ما ستصل إليه ، أطرقت أحلام ، وقالت تجيب عن سؤالها ، وهي تعبث بأصابعها كمن أربكه أمر:
ـ لقد كان والدي..
ثم صمتت برهة ، وداومت الإطراق كالخجلى ، ثم أرسلت زفرة طويلة وشت بما يعتمل في صدرها من ألم وهم وقالت:
ـ طبعا بدأ التحقيق القضائي في هذه القضية ، واتجهت أصابع الاتهام إلى المهندس المسؤول عن تنفيذ بناء العمارة ، لأنه كان قد وقع على عقد يلتزم فيه بمسؤوليته الكاملة عن أي خلل يحدث في البناء..
دافع المهندس عن نفسه بقوة ، ادعى بأن والدي هو الذي أمره بأن يقتصد ويوفر في استهلاك المواد الأولية..
رفض والدي ادعاء المهندس ، وذكره بأن العقد الذي وقع عليه معه ينص على أن تقدير كميات المواد اللازمة للبناء من مسؤولية المهندس ، وأن والدي لم يكن سوى ممول للمشروع ، يسدد الفواتير التي كان يحولها إليه..
وكان رد المهندس بأن العقد الذي وقع عليه كان مجرد خدعة ، وأنه كان مليئا بالشروط المغرية التي وضعها له والدي كطعم يجذبه للقبول بالشروط القاسية الأخرى ، وأن الأمور سارت في كثير من الأحيان على غير ما جاء في العقد ، وأن المهندس اضطر للسكوت عن هذه التجاوزات حتى لا يفقد الامتيازات التي حصل عليها من خلال العقد..
كذَّب والدي أقول المهندس ، واتهمه بالمراوغة ، وقال له أمام هيئة المحكمة التي فصلت في الأمر: "لم تكن مضطرا للتوقيع على عقد تجد فيه شروطا ليست لصالحك"..
قال القاضي كلمته: المهندس مذنب ، ويستحق الإعدام..
سألت أحلام وأنا أتابع القصة باهتمام:
ـ ووالدك؟
قالت أحلام بنبرة غامضة توحي بأنها غير مقتنعة بما تقول:
ـ أثبت والدي أن دوره في عميلة البناء كان مقصورا على التمويل والاستثمار ، وشهد المحاسب الخاص بمشروع العمارة إلى جانب والدي..
قال المحاسب بأن المهندس كان يشتري المواد الأولية اللازمة للمشروع ، ثم يقدم الفواتير لوالدي ليسددها ، ولم يكن والدي يتدخل في تحديد كميات هذه المواد ، ومع هذا لم ينج والدي من المسؤولية ، فقد حكمت عليه المحكمة بتعويض المتضررين عن خسائرهم المادية..
وأقبل العم درويش يحمل الشاي ، فوضعه أمامنا ، وقال ببشاشته المعهودة:
ـ الشاي يا دكاتره..
شكرناه وعندنا للحديث ، قالت أحلام:
ـ كان المهندس شابا حديث التخرج ، قليل الخبرة ، طموحا يبحث عن فرصة كبيرة تدر عليه المال ، وتحرق أمامه المراحل نحو القمة التي يحلم بها ، فوجد فرصته في العرض الذي قدمه له والدي ، ووافق عليه بكل شروطه..
علقت منكرا:
ـ جميل أن يكون الإنسان طموحا ، متحمسا للوصول إلى أهدافه بسرعة ، لكن أن يتسلق على أشلاء الآخرين ، فهذه قمة الدناءة والأنانية والجشع!..
تلقت أحلام كلامي بتأثر واضح ، وكأني أعنيها به ، فلمعت عيناها برقاقة من الدمع ، وشعت نظراتها ببريق حزين ، همست كالحائر:
ـ دكتورة أحلام.. هل قلت كلاما أزعجك؟..
انتبهت أحلام لملاحظتي ، فابتسمت لتخفي الحزن الذي ألم بها فجأة ، وقالت:
ـ أبدا.. كنت أفكربكلامك فقط..
ـ وهل يحزنك التفكير بكلامي إلى هذا الحد؟.
ـ ما يحزنني أن كلامك لا ينطبق على المهندس فقط!..
صمتت أحلام برهة ، ثم قالت:
ـ لم يكن المهندس وحده الذي تسلق على أشلاء الآخرين..
ـ ما زلت لم لا أفهم..
ـ إذا عرفت بقية القصة ، فستفهم كل شيء..
ـ ألم تنته القصة بإدانة المهندس؟..
تناولت أحلام رشفة من فنجانها ، ثم قالت:
ـ كادت القصة تطوى عند هذا الحد لولا أن فجرها الأستاذ سعيد الناشف من جديد..
ـ سعيد الناشف!..
ـ ألا تريد أن تعرف نوع العلاقة التي تربط والدي بالأستاذ سعيد؟..
أدركت أخيرا أن لقصة العمارة المنهارة علاقة بسؤالي ، وظننت أن أحلام تجيب عن السؤال مكرهة ، قلت لها:
ـ لست متمسكا بالسؤال..
ـ لكني متمسكة بالإجابة..
ـ فهمت أن الحديث في هذا الموضوع لا يريحك!..
أمالت أحلام رأسها في هدوء حزين ، وعادت غلالة الدمع تلمع في عينيها ، قالت وهي تزحزح فنجانها بحركة رتيبة وكأنها تداعبه:
ـ ثمة أحاديث كثيرة ، لا يرتاح الإنسان للخوض فيها ، لكن هذه الأحاديث لا ينبغي أن تبقى مكتومة في الصدر إلى ما لا نهاية.. يجب أن تخرج إلى الهواء قليلا ، لتنفث آثارها السامة خارج الجسد ، حتى لا تنفجر داخله فتدمره.. يجب أن نخرجها من خلف الضلوع ليسمعها إنسان قريب منا ، فيألم لألمنا ، ويشاركنا أحزاننا ، ويحمل معنا همنا الثقيل..
ثم رفعت أحلام إليَّ عينين مخضلتين بالدموع ، وهمست:
ـ هل ترضى أن تكون هذا الإنسان يا دكتور؟..
تأثرت لمرآها الحزين ، سارعت وقدمت لها منديلا تمسح به دموعها ، ثم قلت مواسيا:
ـ إني أسمعك.. أرسلي ما يؤرق صدرك ، واعلمي بأنه سيكون محفوظا بين جنبي صديق.. كلنا بحاجة إلى أن نبوح بما يرهق صدورنا ، وكلنا بحاجة لمن يسمعنا في لحظات الضيق..
جففت أحلام دموعها ، واستنشقت بعض الهواء الذي هب من النافذة معطرا بشذا الياسمين ، ثم قالت:
ـ بعد انتهاء المحاكمة بأشهر طلع الأستاذ سعيد الناشف على الناس بمقال مثير.. قال في مقاله: إن المحاسب الذي شهد إلى جانب والدي لم يقل الحقيقة ، وأنه قد زور شهادته أمام المحكمة ، بعد أن كان قد شهد أمام الشرطة بأقوال مختلفة تدين والدي ، وتثبت مسؤوليته المباشرة عن حادث سقوط العمارة ، وتابع الأستاذ سعيد سلسلة اتهاماته لوالدي ، فادعى أن الشهادة الحقيقة التي أدلى به المحاسب قد سرقت من ملفات التحقيق ، وأن المحاسب قد اعترف في شهادته الأولى بأنه سمع والدي أكثر من مرة وهو يطالب المهندس بعدم الإسراف في تسليح البناء ، والاقتصاد في استهلاك المواد الأولية ، حتى يقوم البناء بأقل تكلفة ، ويباع بأربح ثمن ، مما جعل المهندس يبالغ بالاقتصاد والتوفير إرضاء لوالدي ، ويحرم البناء من الحد الأدنى من التسليح الذي يساعده على الصمود ومقاومة السقوط..
ثم أكد الأستاذ سعيد أن المحاسب قد هاجر إلى الولايات المتحدة ، وأنه يقوم هناك بمتابعة دراسته العليا في إحدى الجامعات الأمريكية ، واستدل من هذه المعلومات بأن المحاسب ما كان ليستطيع متابعة دراسته العليا وتكاليفها الباهظة ، لولا أن قبض ثمنا غاليا لسكوته!..
ـ وماذا كان رد والدك على كل هذه الاتهامات؟
ند عني هذا السؤال دون إرادة مني ، وأنا أصغي إليها باهتمام.. قالت أحلام:
ـ لم يسكت والدي طبعا على اتهامات الأستاذ سعيد ، فاتهمه بالطعن والقذف ، وطلب من القضاء أن ينصفه ، ونشبت بين الطرفين معركة قضائية حامية ، كسبها والدي في النهاية ، وتم إيقاف جريدة الأيام التي يملكها الأستاذ سعيد لمدة ثلاثة أشهر ، لأنها تنشر أنباء كاذبة تمس الجمهور ، وتستغل صفحاتها للتشهير بالناس..
قلت لأحلام:
ـ إدانة المحكمة للأستاذ سعيد الناشف تعني أن والدك بريء من كل ما نسب إليه..
قالت أحلام بلهجة غاضبة:
ـ هذا ما يبدو للناس..
ـ هذا ما يبدو للناس؟!..
هكذا قلت في دهشة ، بعد أن أثارت كلماتها فضولي!.. هل يبدو لها الأمر على غير الوجه الذي يبدو فيه للناس؟!.. وحرت في فهم المعنى الغامض الذي يستتر خلف كلماتها ، وانتظرت أن تستأنف أحلام بوحها لتسكت فضولي ، لكنها صمتت ، وعادت إلى فنجانها تهدهده ، قالت وهي تمعن النظر في الفنجان الذي برد قبل أن تكمله:
ـ هل تعلم ما أقسى شيء في الوجود؟
ابتسمت في مرارة وقلت:
ـ في هذا العالم ألوان من القسوة ، فأيها تريدين؟
اغتسلت عيناها ثانية بالدمع ، فتوهجت خضرتهما الصافية بأشعة حزينة تحرك قلبي ، وخفق إشفاقا على هذه الفتاة التي تقطر حزنا وكآبة ، قالت أحلام وهي تمسح دموعها المنثالة فوق خديها بهدوء:
ـ أقسى ما في الوجود أن تصدم فيمن تحب.. أن ترسم في خيالك صورة مشرقة لإنسان عزيز ، ثم يأتي الواقع القذر ليلطخ تلك الصورة الزاهية الجميلة بالأوحال.. فما بالك إذا كان هذا الإنسان العزيز عليك هو قدوتك ومثالك؟.. ما بالك إذا كان هذا الإنسان أباك؟..
قلت وأنا أشفق عليها من آلام الاعتراف:
ـ دكتورة أحلام.. لعلك متعبة!..
قالت في توسل حازم:
ـ أرجوك.. دعني أكمل.. منذ زمن بعيد وأنا أبحث عن إنسان أبوح له بسري.. أريق أمامه ما في صدري.. أتكلم إليه بصدق وصراحة.. فكن هذا الإنسان ، ولو للحظة ، ثم انس ما سمعته مني أو احتفظ به ، لا فرق..
همست مستسلما:
ـ تفضلي وأكلمي.. إني أحترم بوحك هذا ، وأصغي إليه..
أخذت أحلام نفسا عميقا ، ثم أرسلت زفرة ملتهبة ، وقالت:
ـ عندما حدثت كارثة العمارة المنهارة كنت فتاة صغيرة لا أكترث بمثل هذه الأحداث ، ولا ألقي لها بالا ، وعندما كبرت ونضج وعيي وجدتني أحاول فهم ما حدث..
روت لي أمي قصة العمارة ، وما انتهت إليه المحاكمات بشأنها ، وحدثتني بما كان من الأستاذ سعيد ، وأقنعتني بأن والدي كان مظلوما في هذه القضية ، وأن الصحفي سعيد الناشف كان مغرضا في اتهاماته له ، وعلمتني أن قدر الناجحين والمشهورين أمثال أبي أن يجدوا في طريقهم الحاسدين والحاقدين والأعداء..
وبقيت هذه القصة بكل تفاصيلها هاجعة في ذاكرتي ، تستيقظ بين الحين والحين في مناسبات عابرة ، ثم تعود إلى أعماق الذاكرة ، وتغيب فيها كحدث عادي كان ومضى ، ولم يتطرق إليَّ الشك يوما بأن والدي نظيف بريء من كل ما ألصقه به الآخرون من اتهامات ، حتى قامت حرب حزيران ، واكتشفت حقيقة أبي!..
ستسألني: ما علاقة حرب حزيران باكتشاف حقيقة أبي؟!..
عندما قامت إسرائيل بعدوانها الغادر علينا عام 1967م ، كان والدي يعقد صفقة مهمة في اليابان ، وكنا نعيش هنا في ذعر ، خوفا من القنابل الإسرائيلية التي كانت الطائرات العدوة تلقيها على الأحياء السكنية بوحشية..
قلت لأحلام وقد نالت ذكرى الهزيمة من هدوئي ، وأورثتني ألما وحسرة:
ـ أنت تذكرينني الآن بأيام سوداء ، امتزج فيها الألم بالصدمة والذل والهزيمة..
تابعت أحلام بنبرة حزينة:
ـ اتصل بنا والدي أثناء الحرب ليطمئن على أحوالنا ، فتحدثت إليه ، وأخبرته بأن إسرائيل تقصف السكان الآمنين ، وتدمر البيوت فوق ساكنيها ، ولا تميز بين منزل أو مدرسة أو مستشفى.. تريد لو تستأصلنا بقذائفها الحاقدة ، وتمحونا عن الوجود..
هدأ والدي من روعي ، ونصحنا أن نحتاط جيدا من الغازات الإسرائيلية ، فلا نغادر الملجأ إلا للضرورة القصوى ، وطلب مني أن أفتح خزينته ، وأخرج كل ما فيها من أوراق وأموال ، وأحتفظ بها معي ، وأخفيها عن العيون جيدا ، فقد خاف والدي آنذاك أن تدمر قذائف الأعداء بيتنا ، وتتلف أوراقه الهامة التي تحوي على عقود ، وأوراق ملكية ، وسندات وإيصالات وغير ذلك من الوثائق الهامة إضافة إلى مبلغ كبير كان يحتفظ به والدي في خزنته للطوارئ العاجلة.. ثم ذكر لي الرقم السري الذي اختاره مفتاحا لخزنته ، وحذرني من أن تقع أوراقه في يد مخلوق ، حتى لو كان أمي..
ونفذت ما طلبه والدي بالحرف ، فجمعت أوراقه ونقوده في حقيبة ، وحفظتها في مكان أمين من الملجأ ، وأخفيت الأمرعن والدتي ، حتى لا أكون سببا في شجار من الشجارات العنيفة التي كانت تندلع بين أمي وأبي حول مصالحهما وأعمالهما المشتركة..
وعشنا في الملجأ الفسيح الذي بناه أبي تحت منزلنا أياما قاسية.. نخوض في أخبار الحرب ، ونتلقى أنباء الهزائم بألم وذهول كمن يتلقى أنباء مصرع أفراد أسرته واحدا بعد واحد..

وابتليت بالأرق والسهاد ، فلم أعد أذوق للنوم طعما ، وجثمت الآلام على صدري كجبل من الشوك ، ووجدت نفسي ذات ليلة في حالة عارمة من اليأس والألم والملل والضجر والضيق.. بحثت عمن يبدد وحشتي بحديث أو حوار ، فألفيت الجميع قد ناموا بعد أن أرهقهم السهر الطويل والقلق المرهق.. فتحت المذياع ، فخدشت سمعي أخبار الهزيمة ، واعتصرت فؤادي الأغاني الحماسية التي تتحدث عن الانتصار في لحظات الانهيار ، وتبشر بالمد المتعاظم في عصر الانحسار.. أغلقت المذياع بعصبية وحنق ، ولولا إشفاقي على النائمين ، لقذفت به على الأرض ، وحولته إلى حطام..
وخطر لي أن أتفقد أوراق والدي ونقوده ، فمضيت إلى المكان الأمين الذي أخفيتها فيه ، ورحت أتسلى بقراءة الأوراق ، مدفوعة بفضول عادي لمعرفة أملاك أبي وحدود ثراءه..
وسألتني أحلام فجأة:
ـ هل كان تصرفي خاطئا؟..
ـ لا أعتقد..
ـ كان فضولي بريئا من أية نية سيئة..
ـ أتفهم ذلك تماما..
ـ ليتني لم أفعل..
ـ لماذا؟
أطرقت أحلام وقالت:
ـ لأني عثرت بين أوراق والدي على شهادة المحاسب التي اتهم الأستاذ سعيد والدي بسرقتها من ملفات الشرطة!..
وفهمت كل شيء ، أدركت كم كانت صدمة أحلام بحقيقة أبيها قاسية وأليمة ، سألتها بلهجة مترددة:
ـ وماذا جاء فيها؟
قالت أحلام ، وقد توهج وجهها بالحياء ، خجلا مما أتاه والدها من آثام:
ـ اعترف المحاسب في شهادته بأن والدي كان وراء شح المواد الأولية التي رصدت للمشروع ، وأنه طلب من المهندس المنفذ أكثر من مرة ، ألا يسرف في تسليح البناء ، وروى المحاسب أنه سمع والدي يقول للمهندس بالحرف: "أجدادنا كانوا يعيشون في بيوت من الطين ، فلم تسقط عليهم ، لا أدري لماذا يجب أن نحول بيوتنا إلى قلاع؟!".. , أضاف المحاسب في شهادته بأن المهندس صارحه ذات مرة بأنه غير مرتاح للطريقة التي تسير بها الأمور ، لكنه مضطر للاستمرار في العمل حتى يجمع المهر الباهظ ، وثمن الشقة والسيارة التي وضعتها أسرة فتاته شروطا صارمة لا بد منها للرضاء به كزوج لابنتهم المدللة.
وصمتت أحلام مستسلمة لتيار متدفق من الدمع ، فرجوتها أن تتمالك أعصابها خشية أن يراها أحد على هذه الصورة ، فيفهم الأمر على غير حقيقته..
ولا حظ العم درويش بكاء أحلام ، فخف إليها بلهفة الأب الحاني ، وهو يحمل كأسا من الماء ، قال العم درويش وهو يميل نحوها برفق:
ـ خيرا يا ابنتي ، لماذا كل هذه الدموع؟
جففت أحلام دموعها ، وقالت:
ـ لا شيء يا عم درويش ، اطمئن..
ـ كيف أطمئن وأنا أراك دامعة حزينة؟..
وأشرت للعم درويش أن اترك الأمر لي ، فانصرف بهدوء ، ولم يلبث أن عاد وهو يحمل كأسا من الليمون ، فوضعه أمام أحلام ، ثم مضى في صمت ، وجلس بعيدا يرمقنا في قلق ، قلت لأحلام:
ـ أرجو أن تملكي دموعك بعد الآن ، نحن في مجتمع يحب الثرثرة ، ويصغي إليها ، ولن يفهم أحد حقيقة دموعك الطاهرة..
لمست أحلام في كلامي حرصا وحنانا ، فأومأت شاكرة ، وجعلت تلم شتات مشاعرها ، وتستعيد هدوءها ، تماسكت وقالت بعد صمت قصير:
ـ منذ العام المشؤوم.. عام الهزيمة ، وأنا أحمل هذا السر في صدري.. لشد ما عذبتني الحقيقة.. فقدت احترامي لوالدي.. فقدت إيماني به.. انكسر داخلي كتمثال من الزجاج ، وتحول إلى شظايا حادة ، تمزقني وتدميني من الداخل.. حاولت أن أنسى.. ضميري رفض أن يسكت.. ظل يلسعني بسياط اللوم والتعنيف.. يهتف بي أن أفع شيئا.. أي شيء ، لكني ضعفت.. انهزمت.. عشت أيامي التالية كريشة تائهة.. شعرت بأني غصن مكسور.. أحسست بأني لقيطة.. نعم ، لقيطة.. كلقيطتك التي شغلتنا به منذ أسابيع.. عندما كنت أعالج تلك الطفلة كنت أحسدها لأنها أسعد مني حظا ، فهي لم تعرف أباها ، وقد لا تعرفه أبدا ، أما أنا فأعرف من هو أبي وأعرف ما حقيقته.. كان في نظري ملاكا ثم هوى.. هوى كما تهوي الشهب المضيئة ، وتنطفئ في قاع الأرض..
وسألت أحلام:
ـ ألم تفكري بمواجهته بالحقيقة؟
ـ لم أجرؤ..
ـ إلى متى ستسكتين؟..
ـ لا أدري..
ـ معك حق ، إنه أبوك على كل حال..
ـ يبدو أن هناك فرقا بين ما يجب أن يكون ، وما يمكن أن يكون..
ثم تساءلت أحلام:
ـ لماذا لم يعد الناس يطيقون البراءة؟..
ابتسمت كالساخر ، وقلت:
ـ لأنها سيء غير محسوس.. شيء لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يصرف ولا يوضع في البنك!.. لقد آمن الناس بالمحسوس وكفروا بالمعاني..
شعورهم بالحياة أمسى حسيا غليظا.. القيم الجميلة لم تعد تبعث الأشواق في نفوسهم.. إنها العودة إلى البدائية الأولى عندما كنت مشاعر الناس بليدة جامدة قاسية كالأدوات الحجرية التي كانوا يستعملونها..
وأرسل جهاز الإنذار الذي تحمله أحلام عدة إشارات ، فنهضت لتلبي النداء ، قلت لها قبل أن تمضي:د
ـ اغسلي وجهك قبل أن تذهبي ، فالحزن ما زال عالقا فيه..
ابتسمت ، ومضت ، وأنا أشيعها بنظرات ملؤها الحب والإكبار..
هذه هي الفتاة التي تستحق أن يموت من أجلها الرجال ، ويقطعوا في سبيلها مفازات المستحيل!..


۞ الفصل السابع عشر ۞


بذرة الحب التي ألقتها أحلام في قلبي بدأت تنفض عنها غبار الحيرة والتردد ، وتشق طريقها إلى النور ، وما فتئت تنمو وتكبر حتى أورقت بالأمل ، وأزهرت بالفرح ، وأفعمت أعماقي بعبق ساحر لذيذ.. بشيء كالنشوة.. كالحلم.. شيء غامض يدغدغ النفس بأشواق مبهمة ، ويمنح الروح رقة وخفة وقدرة على التحليق ، وكأنها طائر رشيق يرفرف بأجنحته في دنيا مسحورة ، كل ما فيها جميل وبهيج..

أهكذا يفعل الحب؟..

هذا ما راودني ، وأنا أستيقظ صباح اليوم التالي على طيف أحلام ، وهو يمس روحي مسا لطيفا ، ليوقظها من رقادها ، ويطلقها في عالم من الصفاء الحبور..

وانبثق في أغواري تفاؤل عارم ، فشعرت برغبة للانطلاق .. للعمل.. للقاء الناس.. للضحك.. للطيران.. دخلت على أمي في المطبخ ، ورحت أساعدها في تحضير الطعام ، ثم حملت الأطباق إلى المائدة في خفة ونشاط ، وجلست مع والدي نتبادل الأحاديث كالأصدقاء.. لكأني أتذوق الحياة للمرة الأولى ، منذ متى لم أشهد اجتماع العائلة حول مائدة الإفطار!..

قالت أمي وهي تنضم إلى المائدة : لو كنت أعلم أنك ستكون ضيفا علينا هذا الصباح ، لأعددت لك فطورا يليق بك يا دكتوري العزيز..

وأردف أبي : يا لك من محظوظ.. تعيش في البيت كالضيف المدلل ، ونعامل نحن كمواطنين من الدرجة الثانية..

ضحكت في زهو كاذب ، وأقبلت على الأكل بشهية عجيبة أثارت دهشة أمي ، ولم يلبث إخوتي أن توافدوا وهم يضحكون ، وانهالوا عليَّ بتعليقاتهم ودعاباتهم..
ـ انظروا من سيفطر معنا اليوم..
ـ الدكتور صلاح معنا على مائدة واحدة؟.. غير معقول!..
ـ لم نرك منذ أسبوع ، فما الذي ذكرك فينا اليوم؟!..
ـ لا تخاطبوه وهو يأكل ، فقد يغص بالطعام..
ـ تبدو سعيدا هذا الصباح!.. هل منحك مدير المستشفى مكافأة جديدة؟
ـ بل قولوا : إنه مفلس ، وقد جاء يتقرب إلى أبيه من أجل بعض النقود.
ـ أطباء آخر زمن.. تراهم منفوشين كالطاووس ، وجيوبهم فارغة كجيوب الفقراء..
ـ صدقة لله يا محسنين..

لم أستسلم لدعاباتهم المفعمة بالود ، فكلت لهم الصاع صاعين ، وأمطرتهم بمزاح ثقيل ، فتعالت الضحكات البريئة الصافية ، وساد جو صاخب أليف مفعم بالبهجة والسرور..

واقترب موعد دوامي في المستشفى ، فمضيت إلى غرفتي ، واخترت أجمل ملابسي ، فارتديتها ، وأسرفت في التأنق حتى رضيت عن مظهري وهندامي ، ثم أقبلت على أمي وأنا أصفر في مرح ، فقبلت يدها ورجوتها أن تدعوا لي ، فضحكت ، ووضعت كفا على كف ، وعلى شفتيها ابتسامة حائرة ، وسؤال صامت عن سر هذا التصرف المرح الذي قمت به..

قال والدي وهو يحتسي قهوته : ما هذا الأدب الجم الذي هبط عليك من السماء..

ردت عليه أمي : بني مؤدب دائما ، أتغار لأنه قبل يد أمه ، أهمل يد أبيه؟..

قلت له : لا تحزن ، سأقبل يدك أيضا..

ودنوت لأقبل يده ، فسحبها ، وأخفاها خلف ظهره..

قال وهو يميل إلى الجد:
ـ لا أحب أن أرى الرجال وهم يحنون هاماتهم ليقبلوا الأيادي..

قلت له أحاوره:
ـ إلا أيادي الآباء..
ـ ولا حتى أيادي الآباء..
ـ سأكتفي إذن بالجبين..

وانحنيت عليه لأقبل منه الجبين ، فمال برأسه إلى الخلف متهربا ، وهو يضحك ، لكني قبلته عنوة ، فارتسمت على شفتيه ابتسامة فيها حياء وامتنان..

قالت كبرى أخواتي متخابثة وهي ترمقني بنظرات ثاقبة:
ـ تصرفاتك اليوم عسيرة الفهم!

عطف أخي الأوسط على كلامها قائلا:
ـ بل قولي عسيرة الهضم..

قلت كالمرتاب:
ـ أيها اللئيمان.. ألا تطيقان أن تريا أخاكما الكبير سعيدا هذا الصباح؟..

قالت أمي وهي ترنو إليَّ في ود:
ـ الله يسعد أيامك كلها ، اذهب إلى عملك ولا تلق بالا لدعاباتهم السخيفة..

قال والدي وهو يتجه إلى أختي بحديثه متظاهرا بالغيظ:
ـ لكم أكره التحيز.. أمك وأخوك الأكبر دائما متفقان!..

قالت أختي وهي تحاول الاصطياد في الماء العكر:
ـ هذا حلف لن يدوم ، غدا تأتي بنت الحلال ، فتخطف صلاح وتجره إلى جانبها ، وتضطر أمي للانحياز إلينا..

هتفت أمي وهي ترمي أختي بوسادة كانت بجانبها:
ـ أيتها البومة ، كلامك دائما يقطر بالتشاؤم.. أعاذنا الله من أفكارك السوداء..

وودعتهم وهم يضحكون ، ثم انطلقت بسيارتي في شوارع المدينة ، وأنا أحس في حياة لم ألمحها من قبل!..


وصلت إلى المستشفى ، وأسرعت إلى غرفتي في جناح الأطباء المقيمين ، فارتديت ردائي الأبيض على عجل ، ثم مضيت في حماس ، ورحت أهبط الدرج بخفة ومرح ، وفي أعماقي شوق جارف لرؤية أحلام..

واستقبلني هاني ببشاشته المعهودة ، وراح يثني عل أناقتي فيما يشبه اللمز ، ويسألني في خبث عن سر اهتمامي الزائد بنفسي!..

تجاهلت تعليقات هاني ، ورحت أتجول في الممرات والغرف باحثا عن أحلام.. ولكن أين أحلام؟ لقد مضى على بدء الدوام أكثر من نصف ساعة ، ولم تظهر!.. لو أنها حضرت لصادفتها وهي داخلة أو خارجة أو مشغولة بالمرضى والمصابين!..

وشعرت بانقباض ممض يقرصني من الداخل ، وتحولت نظراتي من التفاؤل إلى القلق.. سألت عنها ، فأخبروني بأنها قد اتصلت بمدير شؤون الموظفين ، وأعلمته بأنها لن تحضر هذا اليوم ، لماذا غابت يا ترى؟ شغلني هذا السؤال برهة وأنا أفكر في أمر غيابها.. هل تشكو من مرض؟ أم شغلتها مناسبة طارئة؟ إنها طبيبة مثابرة وقلما تغيب! لماذا غابت اليوم بالذات؟..

ولسعني خاطر مزعج أثار حفيظتي ، وبدد هدوئي.. لعلها نادمة لأنها تسرعت بالبوح لي بما يؤرق صدرها من حقائق وأسرار!.. هذا ممكن جدا.. فأحلام الرقيقة المرهفة ، لا تستطيع أن تبدو أمامي ابنة مجرم.. هذا الإحساس لابد أنه يعذبها.. قد يجعلها تندم على اعترافها لي ، ولكن.. أنا لم أجبرها على الاعتراف!.. كان بإمكانها أن تحتفظ بالسر الخطير الذي أطلعتني عليه ، وتدفنه في صدرها ، لكن أعماقها الطاهرة لفظت هذا السر.. لم تستطع أن تخفيه إلى ما لا نهاية ، أرادت أن يحمله معها إنسان آخر ، وكنت أنا هذا الإنسان..

وتفاقم القلق في أعماقي ، وعصف غياب أحلام بكل الأفراح التي كانت ترفرف داخلي ، فأظلم المستشفى في عيني ولم أعد أطيق البقاء فيه..

انتبه هاني إلى التغير الذي طرأ عليَّ ، فراح يسألني عن سر اضطرابي ووجومي ، لم يكن هناك ما أجيب به.ز

قلت له فجأة:
لن أداوم اليوم ، سأذهب لأوقع إجازة..

نظر هاني إليَّ في دهشة ، وتساءل:
ـ لماذا الإجازة؟ منذ قليل حضرت إلى المستشفى بنفس مفتوحة ، وحماس للعمل!..

رمقت هاني بغضب ، شعرت بأنه قد فهم سر اضطرابي فأراد أن يحرجني بالسؤال ، هتفت بعصبية ظاهرة:
ـ لا أريد أن أداوم اليوم ، هل هناك مانع؟

ضحك هاني وقال:
ـ أنت تتصرف اليوم كطفل ، أحلق شاربي هذا إن لم يكن وراءك سر..

قلت وأنا أمضي:
ـ أنت لا تتقن سوى الثرثرة..

هتف هاني وهو يتحول على الجد:
ـ صلاح لا تستطيع أن تغيب اليوم ، بعد ثلاث ساعات سينتهي دوام الأطباء الذين يعملون معي ، ولن يبقى في القسم أحد غيري..

استدرت ووقفت مترددا ، قلت له بعد تفكير قصير:
ـ ثلاث ساعات تكفي.. سأعود..


وغادرت المستشفى بغير الوجه الذي جئت به إليه ، تطاردني وحشة خانقة ، أحسست لأول مرة في حياتي أني وحيد ، لا تربطني بهذا العالم سوى فتاة واحدة اسمها أحلام..

وانطلقت بسيارتي في شوارع المدينة الصاخبة أبحث عن مخرج من هذه الوحدة القاتلة التي راحت تضيق ، وتضيق ، حتى كادت تسحق فؤادي بين جدارنها المظلمة..

هل حدث كل هذا لأني افتقدت أحلام؟..

وعادت الهواجس المزعجة تجوس في نفسي ، وتزرعها بالقلق والضيق..

لماذا غابت أحلام؟.. أتكون حقا نادمة على بوحها لي؟.. مسكينة هذه الفتاة ، كم تعاني!..

وقفزت إلى ذاكرتي كلمات أحلام الحزينة ، فرحت أسترجعها كلمة كلمة.. "حاولت أن أنسى لكني لم أقدر.. ضميري رفض أن يسكت.. ظل يلسعني بسياط اللوم والتعنيف.. يهتف بي أن أفعل شيئا.. أي شيء.. لكني ضعفت.. انهزمت.. عشت أيامي التالية كريشة تائهة.. شعرت بأني غصن مكسور.. أحسست أني لقيطة!.. نعم لقيطة.. كلقيطتك التي شغلتنا به منذ أسابيع"..

وتداعت خواطري فحملتني إلى الطفلة اللقيطة التي شغلني لغزها زمنا غير قصير ، وراودتني فكرة زيارة الطفلة فتحمست لها ، واتجهت بسيارتي إلى ملجأ الحنان للأيتام ، لأطمئن عليها..

وصلت إلى الملجأ ، ومضيت إلى مكتب الإدارة ، فوجدت فيه امرأة كهلة تقوم على إدارته ، رمقتني المديرة من فوق نظارتها المنكسة ، ثم رفعت نظارتها ، وأحكمت وضعها فوق عينيها ، وهمست فيما يشبه السؤال:
ـ تفضل..

قلت وأنا أتقدم منها بهدوء:
ـ الدكتور صلاح الحكيم..
ـ أهلا بك ، هل من خدمة؟

تلعثمت فجأة ، ولم أجد الصيغة المناسبة لإبداء رغبتي:
ـ أريد أن.. في الحقيقة.. جئت في الواقع للسؤال عن طفلة لقيطة حدث أن حولناها لكم منذ أسابيع ، أريد الاطمئنان عليها فقط!..

سألتني بلهجة حازمة:
ـ هل أتيت لتطمئن عليها بصفة رسمية؟

بوغت بالسؤال ، فأجبت:
ـ لا . أبدا..

رمقتني بنظرة لا تخلو من الشك ، فضولي ليس من النوع المستساغ!..

سارعت لتبديد شكوكها..
ـ كل ما في الأمر أني كنت موجودا عندما أحضروها إلى المستشفى ، وكان لقصتها أثر في نفسي ، فجئت اليوم لأطمئن عليها..

كلماتي لم ترفع وشاح الشك عن نظراتها.. قالت وهي تشملني بنظرة فاحصة:
ـ شعور طيب منك يا دكتور أن تسأل عن طفلة بريئة أهملها أبواها.. هل تعرف اسمها؟
ـ في الحقيقة جئت إلى هنا عفوا دون سابق تخطيط ، لكني إذا راجعت استمارات النزلاء لعرفتها على الفور..

قالت وهي تطوي ورقة كانت قد انتهت من لتوها من كتابتها:
ـ لكن استمارات النزلاء سر من أسرار الملجأ ، لا يجوز لأحد الإطلاع عليها..

قلت في محاولة أخيرة:
ـ على أية حال هي طفلة معروفة ، إنها الطفلة التي وجدت ملقاة في حديقة مسجد الإخلاص ، وقد أعلن عن اكتشافها في جريدة الأيام ، لابد أنك تذكرينها..

نظراتها لم تمنحني صك البراءة بعد ، لكنها دخلت معي في هدنة مؤقتة حتى تعرف نهاية فضولي ، ضغطت على زر كهربائي بجانبها ، فانطلق من خارج الغرفة رنين قريب ، ما لبث أن جاء على صوته رجل كهل يعمل مستخدما في الدار..

ألقت المديرة أوامرها بلهجة صارمة:
ـ محمود.. دل الدكتور على الطفلة بارعة . إنها في القاعة الثالثة عند الآنسة نورا..

تساءلت بغير قصد:

ـ هل سميتموها بارعة؟

قالت المديرة بنبرة جافة وهي تعود إلى أوراقها:
ـ لابد لكل إنسان من اسم يعرف به..

لهجتها لم تعجبني ، شكرتها ببرود ، ومضيت مع العم محمود إلى المكان الذي ذكرته له ، فقادني إلى قاعة فسيحة ، تصطف على جانبيها أسرة الأطفال.

استقبلتنا الآنسة نورا المشرفة ، شيء ما تحرك داخلي نحو الآنسة نورا!.. وجدت في ملامح وجهها ملامح وتعابير مألوفة أذكر أني رأيتها من قبل!.. ولكن أين؟ لا أدري!.. رحبت بنا الآنسة نورا بابتسامة لطيفة سرعان ما خبت عندما رأتني ، مما عزز عندي شعوري بأننا قد التقينا في مناسبة سابقة!..

قال العم محمود للآنسة نورا:
ـ الدكتور يريد الاطلاع على حالة الطفلة بارعة ، المديرة أوصت بذلك..

تقلصت ملامح الآنسة نورا ، وعاث القلق في عينيها ، وبدت كالتي وخزها مغص أو ألمَّ بها وجع!.. وند عنها تساؤل هامس لم أجد له معنى:
ـ بارعة؟

تدخلت موضحا:
ـ نعم . الطفلة التي جاءتكم من مستشفى ابن النفيس ، لقد كنت أحد الأطباء الذين ساهموا في الإشراف على علاجها ، وقد أحببت أن أطمئن عليها..

كان استقبال الآنسة نورا لكلماتي غامضا! بدت مستاءة أو مضطربة ، استرجعت كلماتي لأتأكد إن كان فيها ما يسيء ، فلم أجد أني قد تفوهت بكلمة نشاز!..

قالت الآنسة نورا بنبرة شابها شيء من الارتباك:

ـ تفضل معي..
مضيت خلفها وأنا أكابد حيرة مزعجة ، حملت الآنسة نورا الطفلة بارعة برفق ، وقدمتها لي ، تناولت الطفلة ، وجعلت أتأملها بإعجاب.. لقد تحسنت صحتها تحسنا واضحا ، وأشرق وجهها بوسامة فاتنة وجمال باهر.

رنت الطفلة بعينيها الزرقاوين وكأنها ترنو إلى صديق ، ورفرفت على شفتيها ابتسامة عذبة.. لكأنها تعرف من أنا ، وتدرك مدى اهتمامي بها!.. وانتظمني تيار من الحنان ، فانحنيت على الطفلة وقبلتها ، ثم التفت إلى الآنسة نورا لأشكرها على رعايتها الممتازة لأطفال الملجأ ، فوجدتها ترمقني بعينين دامعتين..

تعلقت نظراتي بدموع الآنسة نورا.. هذا الوجه ليس غريبا عني ، وهذا الجمال الذي يتوهج بأشعة الحزن له جذور في ذاكرتي! ولكن.. متى كان اللقاء وأين؟.. انتبهت الآنسة نورا لنفسها ، فاستدارت ، ذات اليمين ،وكفكفت دموعها بصمت ، همست مثنيا:
ـ أنت رقيقة أكثر مما ينبغي يا آنسة.. شيء جيد أن توفر الدار مشرفات يملكن هذا القدر من الحنان ورهافة الحس.

شكرتني الآنسة نورا بصوت متهدج ، وانفلتت هاربة تخنقها الدموع..

قلت للعم محمود:
ـ هل أنا أول إنسان يقبل طفلة في ملجئكم هذا؟!..

ضحك العم محمود وقال:
ـ لست الأول ولا الأخير ، لكن الآنسة نورا فتاة رقيقة ، ودمعتها سريعة.. إنها فتاة طيبة تعمل بجد ونشاط ، وتمنح الأطفال رعاية فائقة ، وكأنها أمهم التي أنجبتهم..

قلت وأنا أعيد الطفلة إلى سريرها:
ـ هذا الملجأ يقوم بجهد مشكور..
ثم مضيت بصحبة العم محمود إلى مكتب المديرة ، لأشكرها ، وأودعها..

طرقت باب المدرية ، ودخلت ، فوجدت الآنسة نورا عندها , شعرت بأن دخولي قد زرع الصمت في أرجاء الغرفة ، وقمع شفاها كانت تتداول حديثا خاصا ما كنت لألحظ أهميته ، لولا الاضطراب الذي طرأ على كلتا المرأتين لدى دخولي المفاجئ!..

فما إن دخلت حتى تشاغلت المديرة بالكتابة ، وراحت الآنسة نورا تداري ارتباكها بتقليب صفحات مجلة التقطتها فجأة من فوق منضدة قريبة!..

قلت وأنا أكابد شعورا بالذنب:
ـ آسف , لقد دخلت دون استئذان ، أرجو أن تعذراني..

قالت المديرة:
ـ ليس هناك ما يدعو للاعتذار ، هل اطمأن قلبك على الطفل’؟..
ـ أريد أن أعبر عن تقديري للعناية الفائقة التي يلقاها الأطفال في هذا الملجأ..

تبادلت المديرة نظرة مع الآنسة نورا ، ثم قالت:
ـ الفضل يعود إلى المشرفات القديرات اللواتي يقمن بواجبهن على أتم وجه..

قلت وأنا أرمق الآنسة نورا باحترام:
ـ إني أعترف.. من خلال الآنسة نورا على الأقل!..


۞ الفصل الثامن عشر ۞


انتهت إجازتي القصيرة ، فعدت إلى المستشفى وقد تخففت من بعض الغم الذي أصابني به غياب أحلام..

وجدت هاني يتجول بين المرضى ، ويتفقد أحوالهم ، فلما رآني ، أقبل نحوي ، وهو يبتسم في مكر ، قال كالشامت:
ـ أنا سعيد لأنك لم تحظ بإجازة أطول..

ابتسمت لدعابته ، وسألته:
ـ هل هناك حالات جديدة؟

أجاب وهو يمضي معي في الممر الطويل:
ـ الأمن مستتب في أرجاء المستشفى ، وعزرائيل في هدنة مع البشر ، في هذه النقطة من العالم على الأقل..
ـ يا لك من متشائم! ألم تفكر إلا في عزارئيل؟..
ـ الموت حق يا عزيزي..
ـ لن تحزر أين كنت منذ قليل!.

رمقني هاني برهة ثم قال:
ـ لن تصل إلى المريخ في ثلاث ساعات طبعا ، أين كنت؟
ـ في دار الحنان للأيتام..

هتف هاني في دهشة:
ـ دار الحنان!.. هل تقصد..
ـ نعم ، كنت في زيارة الطفلة اللقيطة..
ـ أمازلت تذكرها؟..
ـ خطرت على بالي فجأة ، فذهبت لزيارتها..

قال هاني وهو يهز رأسه في حيرة:
ـ أحيانا لا أستطيع فهم تصرفاتك!.. أتيت هذا الصباح فرحا ، وخرجت غاضبا ، وها أنت تعود لتقول لي بأنك كنت في زيارة الطفلة اللقيطة. وراءك قصة خطيرة يا فتى!.. أتمنى لو أعرفها..

ثم أردف هامسا ، وهو يميل على أذني:

ـ لعلك والد الطفلة اللقيطة! اعترف ، فسرك محفوظ..

لكزته في صدره وقلت:
ـ كف عن هذرك ، وتكلم بجد..

تضاحك وقال:
ـ في الحقيقة أصبحت أشك فيك.. ثمة قاعدة علمية يتبعها المحققون لمعرفة الجاني ، تكاد تنطبق عليك..
ـ وما هذه القاعدة أيها المحقق الأريب؟

قال هاني في تردد قبل أن ينفجر ضاحكا:
ـ المجرم يحوم دائما حول جريمته.

تهيأت للانقضاض عليه للي ذراعه وإجباره على التوقف عن هرائه ، لكنه أحس بنيتي فلاذ بالهرب ، قال وهو يتراجع أمامي بخطوات حذرة:
ـ إياك أن تلجأ إلى العنف ، كن ديموقراطيا وتقبل النقد بروح رياضية. زيارتك للطفلة تحمل أكثر من تفسير!.

ضحكت وسألته:
ـ لماذا ملت إلى هذا التفسير السيء؟.

توقف ، وقال ، وقد آنس مني الأمان:
ـ في زمان كهذا لا ينفع الظن الحسن ، حتى تفهم الناس يجب أن تسيء بهم الظن.

تنهدت وقلت بنبرة تميل إلى الجد:
ـ هاني.. لاحظت اليوم في الدار شيئا غريبا لم أستطع تفسيره!.

توقف هاني فجأة وقال:
ـ إياك أن تكون قد انشغلت بلغز طفلة جديدة!.
ـ لا ، لا ليس كذلك.. الموضوع يتعلق بالمشرفة التي تتولى رعاية بارعة.
ـ بارعة!.. من بارعة؟..
ـ إنها الطفلة اللقيطة ، سموها بارعة.
ـ وما بال المشرفة؟.
ـ لقد اضطربت كثيرا عندما عرفت أني أتيت للاطمئنان على الطفلة ، كان في عينيها قلق مبهم ، شعرت وكأنها تتهرب مني ، كأنها لا تريد أن أراها أو أحادثها..

سألني متخابثا:

ـ هال هي جميلة؟

هتفت مغتاظا:
ـ كف عن هذرك يا هاني ، لا يستطيع الإنسان أن يبحث معك في أمر!
ـ أنا لا أمزح ، لعلها كانت جميلة فأربكتها نظراتك..

ثم قال وهو يغمز بعينه اليمنى ويهز رأسه كالنشوان:
ـ لابد أنها جميلة ، أراهن على ذلك.
ـ لا أنكر أنها جميلة ورقيقة ، لكني مؤدب أكثر منك ، ولا أحب محاصرة الفتيات الجميلات بنظراتي مثلك.

ضحك هاني وقال:
ـ ما الذي يجعل إنسانه لا تعرفها ولا تعرفك تشعر بالاضطراب لرؤيتك وتتهرب منك؟!..

ثم أردف وقد ظن أنه أوقع بي بسؤاله:
ـ أجب دون إبطاء..

ابتسمت وقلت:
ـ ليس الأمر هكذا تماما ، افهمني جيدا يا هاني ، أعتقد أن هذه الفتاة تعرفني ، أذكر أنا التقينا من قبل!..

قال هاني في دعابة:
ـ مبلغ علمي أنك لا تقابل النساء إلا في هذا المستشفى ، إلا أن تكون قد..

لم أدع هاني يكمل ، فقد أيقظت كلماته ذاكرتي ، هتفت وأنا أمسك بهاني من كتفيه:
ـ هاني ، إنها هي.

تساءل في حيرة:
ـ من هي؟

أعتقد أني قد أمسكت بطرف خيط.
ـ عم تتحدث؟

قلت وأنا أمضي بخطوات متسارعة:
ـ إن صدق ظني فهذه الفتاة لها علاقة بالطفلة اللقيطة ، يجب أن أتحقق من ذلك.

توقف هاني ، وقال حانقا:
ـ والدوام؟
ـ لن أتأخر.
ـ صلاح.. أنت مجنون.
ـ حتى يثبت العكس.

أردف هاني بصوت أعلى:
ـ أنت مجنون.. مجنون..

لم أحفل بكلمات هاني . كان همي الوحيد أن أصل إلى دار الحنان للأيتام لمعرفة سر الآنسة نورا.. إنها هي بلا شك ، لقد تذكرتها تماما ، هي ذاتها المرأة الشابة التي زارتني في المستشفى بعيد قدوم الطفلة اللقيطة بدقائق, نظارتها يوم ذاك لم ترتفع عن الطفلة ، تزامن وصولها إلى المستشفى مع وصول الطفلة تقريبا ، والجرح البسيط الذي تذرعت به للحضور إلى المستشفى قبل شروق الشمس ، وأنداء الدمع التي كانت ما تزال عالقة بعينيها الحزينتين ، ثم الاضطراب الواضح الذي اعتراها عندما رأتني في دار الأيتام ، والتأثر الذي فاض بها عندما لاحظت حنوّي وإشفاقي على الطفلة.. كل هذه الملاحظات تحيط الآنسة نورا بدائرة قوية من الشك!!.

وانطلقت بسيارتي أطوي المسافات إلى دار الحنان ، لأضع حد للغز الطفلة اللقيطة ، وأنهى دوامة الفضول الجارف الذي استغرق وقتي وتفكيري ، ثمة سؤال داهمني وأنا في ذروة الاندفاع.. افرض أنها هي ، ماذا ستفعل؟ ماذا ستستفيد من مواجهتها بالحقيقة؟ وإذا أنكرت.. كيف ستدفعها إلى الاعتراف؟ رفعت قدمي عن دعسة البنزين ، وتركت السيارة تتهادى على الطريق ، شعرت فجأة بأني أعبث ، أمارس لونا من المراهقة ، أحشر نفسي في أمور شائكة ليست من شأني..

وخطرت لي فكرة..
لماذا لا أتجه إلى الشرطة ، وأضع شكوكي بين يديها ، وأترك لها مسؤولية معالجة هذا الأمر بما تملكه من وسائل وسلطات؟..

وسرعان ما تهاوت هذه الفكرة أمام مبرر قوي ومقنع.. ماذا لو كانت شكوكي مجرد أوهام؟.. في هذه الحالة سأنسب للآنسة نورا إساءة بالغة تمس سمعتها وكرامتها ، فالشبهة في مجتمعنا أضحت إدانة ، والناس يبحثون عن قصة للثرثرة ، وليس من العدل أن أعرض سمعة هذه الإنسانة للخطر قبل أن أتأكد من حقيقتها ، وترددت طويلا ، وكدت أدور بسيارتي باتجاه العودة ، ولكن طيف الطفلة اللقيطة لمع في خيالي فجأة ، تراءت لي وهي تمد يدها إليَّ في توسل ، والدموع تغرق وجهها الباكي الحزين ، ترجوني أن أنقذها من الشقاء الذي ينتطرها ، تسألني أن أصلها بجذورها المفقودة ، فلا أقسى من أن يتفتح وعي هذه الطفلة البريئة ، لتجد نفسها بلا جذور!..

واخترت طريقي هذه المرة في حزم
..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة