ابحث في الويب




رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 34-36 (الجزء الأخير)



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء




۞ الفصل الرابع والثلاثون ۞


ألجم الموقف المثير لسان القاضي ، فتجمدت نظراته فوق أحلام..
هذه الفتاة العظيمة التي قلبت قوانين الأرض ، وسجلت باعترافاتها المتفجرة ،
قصة نادرة لم يسبق أن شهدت مثلها أروقة المحاكم!..
واهتزت القلوب اعجابا بهذه الفتاة الطاهرة النبيلة ، التي ارتفعت فوق روابط الدم والنسب ،
وتوهجت بالحقيقة الساطعة كنجم ملتهب يضيء ظلمة الكون العميقة..
واحتضنتُ أحلام بنظرات ولهى ، يشعشع منها الوجد..
كانت تقف مطرقة كالخجلى ، وقد أمالت رأسها الجميل في حياء دامع ،
وكأنها ممثلة متواضعة أدت دور البطولة في مسرحية صفق لها العالم من أقصاه إلى أقصاه!!..
أيتها الفتاة الوادعة النقية.. متى يأذن القدر ، فتنهار بيننا الحواجز والسدود ،
وتلأم الفرحة قلبينا العاثرين ، لا أستطيع أن أتصور العالم دون أحلام!..
لكأنها روحه التي تخلع عليه الحياة..
لكأنها ماؤها وهواؤه وأزهاره..
لكأنها الحق والخير والجمال قد اتحدوا واستحالوا امرأة!..
لكأنها نساء العالم قد جمعن أجمل ما فيهن في باقة واحدة ، وسمينها أحلام..
وجعلت أنوس بنظراتي بين الابنة وأبيها ، فحرت في هذه الزهرة البرية الرقيقة ،
كيف نبتت على غصن من الشوك السامّ ؟!..
كان عبد الغني الذهبي يقف ساهما ذاهلا غارقا في لجة من السكون ،
وكأنه تمثال من الشمع ألقاه صانعه وسط هذا الجمهور ليعرف رأيه فيما نحت ،
وتشابكت الأنظار حوله ناطقة بالإدانة ، صارخة بالإنكار ، فياضة بالاحتقار..
ورمقه القاضي كالمفجوع ، ثم انتظره ريثما أفاق من ذهلته العميقة.
وبدأت الحياة تعود إلى أوصاله المتجمدة ، فأسبل جفنيه كمن يحاول هضم ما حدث ، ثم تنفس بعمق ،
فانتزع نفسه من إسار الصدمة ، وجعل يجر قدميه باتجاه ابنته!..
وحبس الحاضرون أنفاسهم ، وهم يرون عبد الغني يترنح في مشيته ،
وقد أطلت من عينيه نظرة وحشية مجنونة أخذت تتقد وتتقد ، كلما اقترب خطوة من ابنته ،
وتسارعت خطواته فاندفع نحو أحلام كثور ذبيح قد احتدم حبه للحياة في القطرات الأخيرة من دمه ،
وسرى في القاعة صمت وترقب ، وتحفز أكثر من واحد لإيقافه ،
وداهم الحاضرين قلق عاصف ، وهم يرون يد عبد الغني ترتفع عاليا في الهواء ، وتهوي على وجه ابنته ،
لكن القلوب الواجفة لم تلبث أن هدأت عندما تسللت قوة مجهولة إلى يد الأب العاتي ،
وأوقفتها قبل أن تمس أحلام بسوء!..
طوى عبد الغني أصابعه المرتعشة الآثمة ، ثم ضمها على صدره في ندم ،
وهو يرنو إلى ابنته بطرف دامع ، ولم يلبث أن هوى على الأرض ، وخر عند قدميها ، وهو يبكي وينتحب ،
وانحنت أحلام نحو أبيها المنهار ، لتنتشله من الأرض ،
فتناول يدها الممدوة إليه ، وأغرقها بالقبلات والدموع ، وكأنه يستجدي منها العفو والرضا ،
لكن أحلام سحبت يدها في حياء ، وانهارت فوق أبيها وهي تنشج بمرارة..
واستدر الموقف المؤثر دموع الحاضرين ،
فأجهشت امرأة بصوت مرتفع ،
وحوقل رجل يقف في أقصى الصفوف ،
وخرج القاضي عن وجومه وصمته ،
فنزل من منصته العالية ، وتقدم من أحلام فأنهضها في حنو واحترام ،
ثم أجلسها على كرسي قريب ، وطلب لها كأس ماء..
لبث عبد الغني راكعا برهة ، وهو ينتحب ،
وبعد أن أفرغ شحنات الندم التي احتقن بها صدره ،
حاول أن ينتشل نفسه من الأرض لكن قواه الخائرة خانته ، فسقط..
فتقدم منه أحدهم ، ومد له يد العون ، فرفضها ، ثم استجمع قواه الخائرة ونهض ،
ووقف أمام القاضي مخضل الوجه ، كسير النظرات ، مائل البنية ،
وكأنه جبل شاهق مادت به الأرض ، وهشم الزلزال هامته..
قال عبد الغني بنبرة غابت منها تلك الجعجعة الفارغة التي كانت تملؤها :
ـ سيدي القاضي.. أعترف سلفا بكل ما أوردته ابنتي أحلام من حقائق..
أعترف بأني غششت وسرقت وقتلت..
أعترف بأني تلاعبت بالقانون ، وخدعت القضاء ، وضللته في كل مرة ،
أعترف بأني تصرفت في هذا العالم كالوحوش الشاردة في أعماق الغابات ،
وتسلقت على أشلاء الآخرين حتى وصلت إلى ما أنا فيه من شهرة وجاه وثراء..
وها هي النتيجة..
ملكت كل ما يحلم الإنسان بامتلاكه ، وخسرت ابنتي الوحيدة ،
التي لم أحب في هذا الوجود إنسانا غيرها..
خسرت احترامها لي ، وخسرت اعترافها بي كأب وإنسان ، فخسرت بذلك كل شيء
لكن ، اسمح لي أيها القاضي أن أروي لك القصة من أولها ، فلكل قصة بداية ،
ولبدايتي قصة يجب أن تروى ، ويجب أن يصغي إليها الناس..
أنا يا سيدي لست شيطانا ، ولست كتلة خالصة من الشر ، كما أبدو لكم الآن..
الإنسان يا سيدي لا يولد شريرا ، والشر ليس أصيلا فينا..
نحن الذين نزرع الشر ، ونحن الذين نحصده..
وقد علمتني الحياة أن الظلم هو التربة العفنة التي يضرب الشر فيها جذوره ، ويطرح ثماره المسمومة..
أعرف أن أسماعكم تأنف أن تصغي لحكمة يلقيها عليكم رجل فاسد ، لكنها الحقيقة..
الحقيقة المرة التي تجرعتها قطرة ، قطرة..
وأنا أشعر بأقدام الظلم والشقاء تدوسني وتسحقني بقسوة..
عبد الغني الذي تعرفونه الآن ـ أيها السادة ـ بدأ حياته ماسح أحذية..
ينحني فوق الأقدام فينظفها ، ويلمعها..
يأكل الخبز ممزوجا بالأصبغة والأوساخ ،
ثم يأوي إلى غرفة حقيرة ، فيقضي الليل فوق حصيرة مهترئة ، وهو يحلم..
يحلم بحياة أخرى خالية من الذل والشقاء..
يحلم بالثروة الواسعة والقصر المنيف..
يحلم بالعز والجاه والرفاء..
وعندما كان يشرق عليه فجر اليوم التالي ، كان هذا الفتى الكادح الطموح ، يحمل صندوقه الخشبي ،
ويمضي به إلى الشوارع والساحات ، ليعرض خدماته على الناس مقابل قروش قليلة..
عبد الغني الذهبي ـ أيها السادة ـ نشأ يتيما ، وعاش محروما..
عاش حياة باردة لا دفء فيها ، أو حنان..
تنكر له الأقرباء ، وبتروه من حياتهم كما يبتر الإنسان قلامة أظفاره ، وقذفوه في العراء ،
ليلتقط رزقه كما تلتقط القطط والفئران..
من أكوام القمامة ، ومخلفات المطاعم ، وصدقات المحسنين..
نعم.. عشت طفولة مرة كالعلقم ، وفتوة بائسة كالجحيم ، وشبابا ضائعا ذليلا لا أطيق ذكراه..
وركبني هاجس مجنون بأن الحياة لا معنى لها بلا ثروة ،
فبدأت رحلة كفاح مضنية ، حرمت نفسي خلالها من أشياء كثيرة ،
ورحت استثمر كل دقيقة وثانية ، وأجمع القرش فوق القرش ،
حتى كونت مبلغا متواضعا يصلح كبداية..
واستأجرت بالمبلغ دكانا في الجزء الجنوبي من السوق الكبير ، فاتخذت منه صالونا متواضعا لمسح الأحذية..
كانت الفكرة جديدة ، لم يسبقني إليها أحد ، فنجحت ،
ودرت علي ربحا وفيرا مكنني من شراء المحل ، وتطوير الصالون..
وشعرت بأن الدنيا قد بدأت تبتسم لي ، فاستبشرت ، وتفاءلت ،
واندفعت نحو أسوار الجنة التي رسمتها في خيالي ، بيد أن فرحتي لم تكتمل!..
فقد قررت الحكومة فجأة أن تزيل الطرف الجنوبي من السوق لإقامة مبنى البلدية فيه..
طار صوابي وأنا أرى الجرافات تزيل الصالون ، وتسد بأنقاضه بوابة أحلامي..
وكانت صدمتي أكبر عندما علمت بأن التعويض الذي صرفته الحكومة للمتضررين ظالم زهيد..
جن جنوني وأنا أرى الحلم يتسرب من بين أصابعي ، ووجدت نفسي أعود إلى نقطة البداية ،
بعد كل ما حققته من نجاح ، فانتابني إحساس عميق بالظلم والجور ، ففقدت شعوري بالأمان ،
وامتلأت نفسي بالحقد على كل شيء!..
ولم أرضخ للواقع ، فقررت أن أعوض خسارتي بأسرع وسيلة ، وأقصر طريق..
قامرت.. ربحت وخسرت..
لم أحتمل الخسارة الجديدة..
استدنت مبلغا وقامرت به..
خسرت في المرة التالية ، فجننت ،
وخضت شجارا عنيفا مع الذي غلبني ،
وانتهى الأمر بنا إلى السجن ،
هناك ، تعلمت فنون الجريمة ، وخرجت مسلحا بالخبرات المحرمة ، وانزلقت خطوة بعد أخرى..
سرقت وغششت وضربت وقتلت..
تاجرت بالتهريب والمخدرات ،
وعشت في هذا العالم كقرصان ألقى عواطفه في المحيط ، واستل سيفه المسموم ليحكم به البحار..
وتدفقت الأموال بين يدي ، فبدأت أصنع لي اسما وسمعة ، أسست شركة استيراد وتصدير ،
ثم قفزت قفزة أخرى ، فتزوجت أرملة ثرية ، وأنجبت منها أحلام..
وكان للمكانة المرموقة التي وصلت إليها مظهرها الرفيع ، فلم يعد بإمكاني أن أتابع أسلوبي القديم في الغش والنصب والاحتيال ،
وصار لابد لي من أشخاص موثوقين ، يقفون في الواجهة دائما ، ويتحركون وفق إرادتي ،
كالدمى في مسرح الأطفال ، فإذا ما سقطوا أفلت الخيط الرفيع الذي يربطهم بي من يدي ،
وتركتهم يسقطون وحدهم دون أن أصاب بأذى..
ووجدت ضالتي في شريحة من الشباب المندفع الطموح ، الذي يستعجل الوصول إلى الثروة ،
فأغريتهم بالرواتب العالية ، وقربت لهم طموحاتهم الحالمة إلى الثروة ،
فأغريتهم من أجل قفزة واسعة تحقق لهم أحلامهم الكبيرة وتريحهم من عناء الكدح والكفاح..
ومضيت في اللعبة بحذر شديد ، اصطاد الفرص عن بعد ، ثم أوحي إلى أعواني ممن اخترتهم بعناية ليلتقطوا الفرائس ويعودوا بها غانمين..
أما رجل المهمات القذرة ، فهو صديق قديم عرفته أيام الضياع ،
وكان مدمنا على نوع غال من المخدرات القوية ،
فكنت أوفر له ثمن المخدر وألجأ إليه في الأزمات لأستعين به في حسم الأمور المعقدة..
وقد كانت نورا بالنسبة لي مشكلة تحتاج إلى حسم ،
فقد أخفق الدكتور شريف في الضغط عليها ، فأخذت تثرثر بقصتها في كل مكان ،
ما جعلني أقلق على سمعة الشركة ، وعندما شاهدتها مع الدكتور صلاح في مقصف المركز الثقافي ليلة افتتاح معرض أحلام ،
أوحت لي أفكاري بأن الفرصة قد حانت للتخلص من ثلاثة مزعجين في وقت واحد..
نورا التي تهدد سمعتي ومستقبل أعمالي..
والدكتورصلاح الذي استولى على قلب ابنتي أحلام ، فشغفت به ، ورفضت أن ترتبط برجل غيره ،
وأخيرا الدكتور شريف الذي تمادت به أطماعه فأقدم على خطبة ابنتي أحلام وهو يلوح لي بما يعرفه عن الشركة من أسرار ،
ظنا منه أني قد أرهبه وأرضخ لرغبته ، فأزوجه ابنتي ، وأورثه ثروتي ، فوافقت مجاملا ،
ورحت أتحين الفرص للإيقاع به..
هذه قصتي أيها القاضي..
قصة إنسان ظلم فظلم ، وانتقم لنفسه من العالم الذي ضن عليه بالرحمة والعدل والاحترام..
ما إن انتهى عبد الغني الذهبي من الإدلاء باعترافاته ،
حتى نهض الأستاذ سعيد الناشف ،
واستأذن القاضي في إيراد معلومة مهمة ، قال الأستاذ سعيد :
ـ سيدي القاضي.. أنا أذكر الواقعة التي أوردها عبد الغني الذهبي حول إزالة الحكومة في ذلك الوقت للطرف الجنوبي من السوق الكبير ،
الحكومة آنذاك لم تعوضهم التعويض العادل..
لكني أحب أن أضيف هنا أن الحكومة التي جاءت بعدها مباشرة ،
أعادت النظر في ظلامة هؤلاء التجار ، ومنحتهم حقوقهم كاملة ،
ولهذا فأنا أعتقد أن مبرر الظلم الذي اتكأ عليه المتهم عبد الغني مبرر زائف قصده تضليل القضاء..
هتف عبد الغني في حنق ، وقد أخرجه تدخل الأستاذ سعيد عن طوره :
ـ أجل.. لقد عوضتني الحكومة التالية عن الظلم الذي أنزلته بي الحكومة التي سبقتها ، لكن ، متى؟..
بعد أن انزلقت قدماي إلى عالم الشر ، وتوغلت في دنيا الجريمة..
بعد أن لوث الحقد دمائي ، وشوه الظلم نفسي ، وفقد إيماني بكل شيء..
وأردف عبد الغني الذهبي ، وهو يشير إلى الأستاذ سعيد ، وقد انتفخت أوداجه ، وازدادت نبرته حدة وعنفا :
ـ وأنت أيها الصحفي البارع..
أين كان قلمك الناري عندما وقع الظلم علي وعلى أصحابي؟..
أتذكر؟..
أتذكر يومها كيف جئناك شاكين متظلمين ، ورجوناك أن تثير قضيتنا في صحيفتك؟..
فماذا قلت؟..
قلت لنا يومها بأن هذه القضية حساسة ، وأنك لا تستطيع أن تخوض فيها ،
لأن جريدتك جريدة ناشئة ، وتريد أن تشق طريقك بها دون عقبات!...
كيف تنسى هذه أيها الصحفي النزيه ، وتذكر تلك؟..
أم أنك نسيتها لأن عبد الغني الذهبي لم يكن آنذاك رجلا مشهورا يدر عليك التشهير به الربح الوفير ،
ويشد القراء إلى جريدتك ليقرؤوا فضائحه؟!..
أنتم يا عزيزي لا تتذكرون الناس إلا عندما يكبرون ويشتهرون ، لأن الحديث عنهم آنذاك ، والاقتراب من خصوصياتهم ،
يثير فرقعة عالية تلفت الانتباه إلى أقلامكم..
أما الصغار!.. أما البسطاء!..
فلا يهمكم منهم سوى قروشهم التي يشترون بها منشوراتكم وصحفكم!..
وتابع عبد الغني قائلا ، بلهجة لاح فيها التهكم :
ـ صحيح أيها الصحفي المحترف أني بدأت مجرما ،
لكني انتهيت تاجرا ، أفهم كل ألوان التجارة..
حتى التجارة بالكلمة!..
صمت الأستاذ سعيد ، ولم يعلق ، وعاد إلى مكانه مطرقا ، وكأن ثورة عبد الغني قد نالت منه!..
أما عبد الغني الذهبي ، فقد التفت إلى ابنته بعينين دامعتين ، وغمرها بنظرة ودودة ، ثم قال القاضي دون أن يرفع عنها عينيه :
ـ سيدي القاضي..
أرجو أن تفتحوا ملف التحقيق من جديد ،
لأعترف لكم بكل ذنب اقترفته ،
وكل سر أخفيته من أجل هذه الإنسانة الطاهرة فقط..
وأشار إلى أحلام..

۞ الفصل الخامس والثلاثون ۞


ـ أين ذهبت أحلام؟
صمتوا ، نشجوا ، قالوا رحلت!..
ـ رحلت؟!..
حملت حقائبها ورحلت ، لم تترك خبرا!.. لم تترك أثرا!..
لم تفصح عن وجهتها.. حتى كلمة الوداع..
ضنت بها علينا!...
ـ أحلام رحلت!..
كانت حزينة.. ترمق الأفق بعينين حالمتين ، وتغذ الخطى نحوه كتائه لاحت له واحة في الصحراء!..
لم نستطع أن نوقفها ، غادرتنا على حين غرة ، وكأنها قد بيتت الأمر وأعدت له عدته!..
ـ لا أصدق!..
كلنا لم نصدق.. توقعنا منها كل شيء ، إلا أن ترحل..
لقد ملتنا!.. عافتنا!.. كرهتنا ، وكرهت الحياة بيننا!..
ونشجت أمها بحرقة ، فغلبتها الدموع وارتمت على كنبة قريبة ، وجعلت تبكي وتنتحب..
دنوت من الأم الحزينة مشفقا ، وقلت أواسيها :
ـ اهدئي يا خالة.. اهدئي واطمئني.. لابد أن تعود..
لعل الصدمة قد أرهقت أعصابها ، فأرادت أن تستريح بعيدا عنا ، لكني واثق من أنها ستعود..
شهقت الأم ، وقالت :
ـ لقد قلبنا عليها الدنيا.. سألنا عنها الأصدقاء والأقرباء والمعارف..
عممنا صورتها على الفنادق والمطاعم والمستشفيات..
جنّدنا جيشا من المتفرغين للبحث عنها ، لكنهم لم يعثروا عليها..
لم يجدوا لها أثرا..
راجعنا قوائم المغادرين في المطارات ، فلم نجد لها اسما ، وأخيرا لجأنا إليك..
هل تعرف يا ولدي أين يمكن أن تكون؟..
أطرقت في حزن.. ليتني أعرف أين تكون..
لمشيت إليها حافي القدمين..
لقطعت خلفها الأرض من أقصاها إلى أقصاها..
لخضت البحار من أجلها بحرا بعد بحر..
آه..
أنتم لا تعرفون من هي أحلام بالنسبة إلي..
إنها الماء والهواء.. العقل والروح..
الماضي والحاضر والمستقبل..
إنها الأمل..
الأمل الوحيد الذي يربطني بهذه الحياة..
وقلت في ثقة :
ـ قد لا أعرف أين هي أحلام ، لكني واثق من أنها ستعود..
قد يطول غيابها أو يقصر لكنها ستعود ، لا يمكن لأحلام أن تغيب عنا طويلا!..
أجهشت الأم ، وقالت بالتياع :
ـ يجب أن نجدها بأية وسيلة..
و رحت أبحث عن أحلام.. بحثت عنها في كل مكان..
استعنت بالصحافة والإعلام..
وانتظرت عودتها صباحا بعد صباح ، وكابدت في انتظارها آلام الشوق ، والحرمان..
وطال غياب أحلام ، فيئس الباحثون عنها لكنّي لم أيأس..
أقسمت أن أجدها ولو قضيت العمر أسعى خلفها..
وأقسمت ألاّ تجمعني الحياة بامرأة سواها..

وقالت لي أمي ذات يوم :
أنت تعشق امرأة مفقودة.. لو كانت في المريخ لعادت..
لهزها الحنين إلى أمها المسكينة..
إلى الرجل الذي ضحى من أجلها وعانى..
لعادت إلى المدينة التي أنجبتها..
وأردفت أمي في حذر :
-
أغلب الظن أنها ...
همستُ في قلق :
ـ ماذا ؟
تشجعت وقالت :
ـ لعلها قد انتحرت أو ماتت !
شعرت بكلماتها تغوص في أعماقي كسكين..
ـ لا.. لا تقولي هذا يا أماه.. أحلام لا يمكن أن تموت!..
تساءلت أمي في دهشة :
ـ لماذا ؟!! أليست بشرا مثلنا ؟!!..
همستُ وأنا أرمق طيفها بعينين حالمتين :
ـ نعم.. بشر مثلنا ، لكنها ليست كالبشر..
روحها أقوى من أرواح البشر..
أنبل من أرواح البشر..
لكأنها من الملائكة ..
ألم يتحدثوا عن ملائكة زاروا الأرض في هيئة البشر..
لكأنها منهم ..
جاءت الأرض على هيئة امرأة..
جاءت تحمل إلينا حكمة السماء..
وبعد أن أدت الأمانة اختفت..
تحولت إلى طيف.. طيفها لا يفارقني يا أماه..

وقالت لي أختي ، وقد تجاوزتُ الرابعة والثلاثين:
ـ يجب أن تتزوج ، لقد بدأ العد التنازلي في حياتك ، وآن لك أن تستقر وترتاح..
قلت في ثقة :
ـ لن أتزوج إلا أحلام..
ـ أمازلت تنتظرها؟!..
ـ سأموت وأنا أنتظرها..
تضاحكت أختي وقالت :
ـ إني أفهمكم أيها الرجال ، إذا عشقتم جمال أنثى ، لم يقنعكم جمال غيره!..
ثم دنت مني ، وهمست باهتمام :
ـ ما رأيك بالدكتورة هدى ، هدى طبيبة الأسنان ، ألم تلاحظ؟..
إنها شديدة الشبه بأحلام!..
ابتسمت كالساخر ، شردت بنظراتي بعيدا ، وقلت :
ـ قد تتشابه الوجوه والأجساد..
لكن الأرواح لا يمكن أن تتشابه..
إنها كالبصمات!.. لكل واحدة منها ملامح تتفرد بها وصفات..

وقالوا ذات مرة : ثمة طبيبة في الريف..
نذرتْ نفسها لمعالجة الناس في القرى البعيدة ، وبث الوعي بينهم
وقالوا : إنها طبيبة فريدة ، تعالج المرضى في النهار ،
وعندما يأتي المساء ، تجمع الأميين في مدارس خاصة ، وتعلمهم القراءة والكتابة!..
همست في فرح..
هذه أحلام..
لا يقدم على هذه التضحية إلا هي!..
ألم تُضَحِّ بأبيها ومستقبلها من أجل كلمة حق؟!..
وسافرتُ إليها.. جبتُ الأرياف باحثا عنها..
وأخيرا وجدتها..
وجدتها تكافح الكوليرا في قرية نائية..
لكنها لم تكن هي!..
لم تكن أحلام!..
قالت الطبيبة بعدما سمعتْ قصتي :
ـ أتحبها إلى هذا الحد؟
بكيتُ كطفل صغير ، حبي لها لا يقف عند حد!..

وأعلنت الدولة عن جائزة تقديرية لطبيبة موهوبة تركت مهنة الطب ،
وعملت رسامة في مجلة أطفال ، وابتكرت لهم شخصيات خالدة ، وفاقت في سحرها ،
وجاذبيتها شخصيات والت ديزني الشهيرة!..
قلت هي.. طبيبة ورسامة.. ظني هذه المرة لن يخيب..
وبحثت عنها حتى التقيتها ، فوجدتها امرأة أخرى..
لم تكن أحلام..

وقال هاني ذات صباح:
ـ اسمع هذا الخبر.. طبيبة عربية في المهجر تنجح في اكتشاف فيروس خطير..
سألته في لهفة :
ـ ألم يذكروا اسمها؟
أطل هاني من خلف الجريدة ، وفي عينية نظرة متفهمة ،
ثم عاد إلى جريدته ، وقد أدرك مرادي ، وأخذ يقرأ تفاصيل الخبر..
ـ أعلن معهد الأبحاث الفدرالي للأمراض الفيروسية في نيويورك عن اكتشاف فيروس جديد
يعتقد بأنه العامل المسبب لمرض غامض بدأ ينتشر في أوساط الأمريكيين منذ مدة!.
ومن الجدير بالذكر أن الذي اكتشف الفيروس طبيبة عربية أغفل المعهد ذكر اسمها لأسباب غير مفهومة!..
هتفت بنبرة فرح :
ـ إنها هي .. إنها أحلام..
ـ كيف سنتأكد؟
ـ نسافر إليها.
ـ إلى أمريكا؟
ـ سأحجز على أول طائرة..
قال هاني بلا تردد :
ـ احجز لي معك..
وسافرنا معا إلى أمريكا..
اتصلنا ببعض الأصدقاء هناك ورجوناهم أن يساعدونا في العثور على الطبيبة..
وصلنا إليها.. كانت تجلس خلف مجهرها ،
وقد اكبت فوق عينيه بشغف ، وغاصت بنظراتها خلف عدساته المكبرة ،
باحثة عن سر جديد..
ابنثق الأمل في أعماقي كإشراقة شمس ،
وهتف داخلي ألف صوت يناديها باسمها الجميل ،
وأفلت النداء مني ، فتلقفه لساني..
ـ أحلام..
لكزني هاني بكتفه منبها :
ـ انتظر..
انتزعتها نبرتنا العربية من أعماق القطرة التي كانت غارقة في بحر أسرارها الغامضة..
رفعت إلينا نظرات مرهقة أضناها البحث والتنقيب..
وتأملتْنا بنظرة استطلاع..
انطفأ الأمل في أعماقي فجأة.. واجتاحتني خيبة مريرة..
لم تكن أحلام!..
سألتنا الطبيبة العالمة :
ـ أنتما عربيان؟
أجاب هاني :
ـ نعم ، طبيبان عربيان
ـ أهلا بكما هل من خدمة؟
قال هاني متلعثما وهو يشد على يدي مواسيا :
في الحقيقة.. كل ما في الأمر أن نبأ اكتشافك العظيم قد هزنا من الأعماق ،
فجئنا.. جئنا..
قلت في محاولة لإسعافه :
ـ جئنا لنقول لك مبروك..
علت الدهشة محياها.. ابتسمت في وقار وقالت :
ـ ألهذا الحد يهزكما نبأ تفوق عربي؟
قال هاني :
ـ يحق لنا أن نهتز..
فنحن لم نتفوق في شيء ، منذ زمن بعيد..

وزارنا العم درويش في المستشفى ذات يوم..
جاء يتكئ على عصاه ، وهو يحمل صرة في يده..
قال وهو يبش لنا باسما :
ـ لقد جئتكم بتمر الحجاز ، وماء زمزم..
استقبلناه بالأحضان ، وأجلسناه في مقصفه القديم ،
الذي تخلى عنه بعدما زحفت إليه الشيخوخة ، ودب في أوصاله المرض..
وطلبنا له فنجانا من القهوة ، فجعل يحتسي القهوة رشفة رشفة ،
ويتذوقها مختبرا طعمها ونكهتها ، ثم أخذ يدلي بملاحظاته على قهوة النادل الجديد نسبة إلى البن إلى الهيل، ونسبة الهيل، ونسبة القهوة إلى السكر، ونسبة المسحوق إلى الماء ، ومدة الغليان..
باختصار أراد أن يذكرنا بقهوته التي امتزجت بدمائنا ، وعشعش طعمها في أفواهنا..
قال هاني للعم درويش مداعبا ومجاملا :
ـ الله يرحم أيامك يا عم درويش ، كانت القهوة على زمانك قهوة!..
ليتك تعود إلينا ، لتمتعنا بقهوتك الفريدة..
ـ اسكت يا دكتور هاني.. لولا لطف الله بي ، لكان عمك درويش الآن في عداد الأموات..
همست مشفقا :
ـ خير يا عم درويش ، ماذا حدث؟
أطرق العم درويش برهة كالساهم ، ثم أنشأ يقول :
ـ بينما كنت أنا وزوجتي نطوف في البيت العتيق ،
نشب شجار بين بعض الحجاج ، ولم يلبث الشجار أن اتسع!..
لا تدري كيف امتد واتسع؟!..
وساد هرج شديد ، فاندفعت كتل البشر في كل اتجاه ، وكادت الأقدام المذعورة تسحقنا ، لولا امرأة..
امرأة هرعت إلى مكبرات الصوت ، وصاحت بالمتشاجرين أن يرعووا ويكفوا..
قاطعت العم درويش متسائلا :
ـ امرأة؟!..
قال العم درويش مؤكدا :
ـ أجل امرأة.. امرأة عاقلة وحكيمة..
وقفت بنا خطيبة ، وخاطبتنا بكلمات قوية مؤثرة لا أنساها ، قالت بصوت هادر مجلجل :
ـ ألجموا قبضاتكم المكورة أيها الناس ، ووفروها لعدوكم الذي يتربص بكم الدوائر ،
هذا البيت عنوان وحدتكم ، فلا تدنسوه بأحقادكم ،
لقد آن لكم أن تفهموا أن الجهل والتخلف والأنانية الكريهة هي سر ذلكم وهوانكم..
أفيقوا من ضياعكم ، وعودوا إلى الملايين النائمة في بلادكم فأيقظوها ووحدوها ،
ولا تقربوا البيتَ ( الكعبة ) بعد اليوم إلا قلبا واحدا وقبضة واحدة..
قبضة شريفة تنتزع المجد من براثن الليل ،
لتتوج به هامة لوثناها ومزقناها بأيدينا..
لم أنتظر.. قاطعت العم درويش ثانية رغما عني..
همست بنبرة تترواح بين اليأس والرجاء :
ـ لعلها أحلام!..
التفت العم درويش ، وقد حرك ذكر الغائبة الغالية مدامعه ، قال في عتاب رقيق :
ـ سامحك الله يا دكتور.. وهل أنسى صوت أحلام؟!..

ووجدت من واجبي أن أطمئن عن والدة أحلام ،
طرقت الباب ففتحت لي خادمة عجوز ، سألتها عن سيدتها ، قالت إنها في الداخل تؤدي الصلاة!..
سبحان مقلب الأحوال!..
أمن سيدة صالونات صاخبة إلى ناسكة في المحراب؟!..
وشدني عبق المكان.. هنا عاشت أحلام..
رائحتها الطيبة مزروعة في كل ذرة من ذرات هذا القصر ،
وطيفها الوادع يتراءى لي أنى التفت..
ليتني شاعر حتى أبكي هذه الأطلال..
وجاءت أم أحلام ترفل في ثيابها البيضاء.. ولسانها يلهج بالذكر والتسبيح.. قالت مرحّبة :
ـ أهلا بك يا ولدي.. لقد اشتقنا إليك.. لماذا لا تزورنا؟..
أطرقتُ في حياء.. كان يجب أن أتفقدها بين الحين والحين..
وقلت معتذرا :
ـ أنتم في البال دائما يا خالة..
ثم أردفت مستدركا :
ـ تقبَّل الله..
اعترتها كآبة ظاهرة ، واحتقنت ملامحها بالحسرة والندم ، قالت وهي ساهمة تضع كفا على كف :
ـ ليته يقبل.. لقد جحدناه كثيرا..
وصمتت برهة وهي مطرقة ، ثم رفعت إلي وجها مخضلا بالدموع ،
وسألت بنبرة تتوهج بالأسى واليأس :
ـ ألا توجد أخبار؟
وخزني سؤالها ماذا أقول لك أيتها الأم الملوعة؟..
كلانا في الهم سِيَّان..

واتصلت بي أم أحلام منذ أيام..
رجتني أن أمر بها وأنا عائد من المستشفى..
سألتها إن كان هناك ما يدعو للقلق ، لكنها طمأنتني إلى أن الأمر ليس بعاجل، ولا بأس من التريث في القدوم.. لم أصبر.. هرعت إليها على جناح السرعة..
ـ أماه.. ماذا هناك؟..
قادتني إلى غرفة في أعماق القصر ، قالت وهي تفتح الباب :
ـ هذه غرفة أحلام..
أحسست بروحها ترفرف في المكان..
فتحرك في أعماقي شوق يتلظى..
وتدحرجت فوق وجهي دمعتان ، طاف الحزن والتأثر في عينيها ، وهي ترى دموعي ،
قالت وهي تصارع أمواج البكاء المتلاطمة تحت ملامحها الهادئة الكئيبة :
ـ إني أزور غرفتها كل صباح..
أناجي صورتها الجميلة ، وأعانق أشياءها..
أبحث عن رائحتها الطيبة في الأثاث والجدران ،
وأتأمل تلك اللوحة العزيزة عليها..
التفتُّ إلى الخلف حيث أشارت والدة أحلام ، فطالعتني لوحة رائعة فجرت ينابيع الحزن والحسرة في نفسي..هذا هو قاضي الأطفال ، وهو يقف على غيمة العدالة ، ويشير بإصبع الاتهام إلى الكبار الذي شوهوا أرواح الصغار ولوثوها، لقد وعدتني أن ترسم هذا المشهد عندما حدَّثتُها عن الحلم الغريب الذي رأيته ليلة مجزرة باص الأطفال!..

ما أصدق هذه اللوحة وأقربها إلى ما رأيته في الحلم ، لكأن روحينا كانتا معا في حلم واحد!..

قالت والدة أحلام ، وهي تمسح إطار اللوحة بأناملها في رفق بالغ :
ـ لقد نالت هذه اللوحة إعجابا منقطع النظير ، فتهافت الجمهور على شرائها ،
وقد دفع بها أحد الزوار الأجانب مبلغا طائلا يفوق ثمن كل ما باعته أحلام من لوحات ، لكنها اعتذرت له، قائلة: "هذه اللوحة ذكرى ، وأنا لا أبيع ذكرياتي..".

خفق قلبي وأنا أصغي لوالدة أحلام.. أحلام أيتها الحبيبة الغائبة.. كم أنت وفية وعظيمة!..

وأردفت والدة أحلام :
ـ كنت اليوم قد أنزلت اللوحة لأول مرة لأرفع عنها ما لحق بها من غبار، فقرأت خلف اللوحة عبارة غريبة أردت أن أطلعك عليها..

أثارتني هذه الملاحظة.. ماذا تركت أحلام من آثار؟!..

تناولت اللوحة في لهفة وقلبتها ، فقرأت عليها هذه الكلمات..

"
هذه اللوحة ذكرى عزيزة للرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي، فإذا متُّ أو فارقت هذا العالم، فادفعوا بها إلى الدكتور صلاح الحكيم، لأنه هو الرسام الحقيقي لهذه اللوحة، وهو مبدعها الأول..
                                                                                                                    أحلام.."..
تأملت كلماتها بعينين دامعتين ، وقلب مكلوم..
متى تعودين أيتها الغالية ، وتملأين حياتنا بالأفراح؟

قالت الأم في قلق ووجوم :
ـ ألا يوحي لك هذا الكلام بشيء..
فهمت ما أرادته الأم..
لا يمكن أن تقدم أحلام على الانتحار..
امرأة تملك كل هذا النبل لا يمكن أن تعتدي على الحياة ،
ولو كانت هذه الحياة حياتها التي تمور بين جنبيها ،

وقلتُ بنبرة مطمئنة :
ـ أبعدي عن بالك هذه الأفكار يا خالة.. أحلام إنسانة تحب الحياة ، لكنها ترفض الأسلوب الذي نحياها به..
لهذا غادرتنا.. عندما نغير الطريقة التي نمارس بها حياتنا ستعود إلينا أحلام..  كوني واثقة من أنها ستعود..


۞ الفصل السادس والثلاثون ۞

أفقت من ذكرياتي كمن يستيقظ من سبات عميق!..
أين أنا؟
كان البحر ممتدا أمامي بلا نهاية ، وكان قرص الشمس يتوارى خلف الأفق مؤذنا بالمغيب..
كيف وصلت إلى هنا؟
وشعرت بالتعب والإعياء يدب في أوصالي..
لقد مضى علي ساعات طويلة وأنا أمشي غارقا في الذكرى غافلا عما حولي!..
لأول مرة أصدق بأن هناك أشخاصا يمشون أثناء النوم!..
جلست على صخرة قرب الشط ،
وأرسلت نظراتي إلى الأفق الأزرق المتوهج بألوان الغروب الحزينة ،
ما الذي نكأ ذاكرتي حتى تداعت فيها كل هذه الخواطر؟..
آه.. تلك الفتاة التي ظننتها أحلام..
لشد ما تأتيني هذه الحالة!..
صرت أراها في كل عين حالمة ، وفي كل وجه جميل..
وانتبهت إلى كرة تتدحرج قربي على الرمال..
ولم تلبث أن أتت خلفها طفلة صغيرة ،
ألفتني الطفلة أبكي في صمت ، فاقتربت مني وسألتني بصوت ناعم كزقزقات عصفور :
ـ "عمو".. لماذا تبكي؟
واساني سؤالها الرقيق ، حضنتها بنظرة حانية ، وأجبت :
ـ أضناني الشوق يا صغيرتي.. الشوق إلى صديقة قديمة..
اقتربت الطفلة أكثر ، وأخرجت من جيبها منديلا صغيرا ، وجففت به دموعي!..
أمسكت بيدها الغضة ، واحتضنتها داخل راحتي ،
ثم سألتها وأنا أرمقها في دهشة وإعجاب :
ـ لماذا فعلتِ ذلك؟
أجابت وهي تميل برأسها في حياء :
ـ لا أحب البكاء..
مسحت برأسها بود ، وقلت :
ـ أنت طفلة ذكية ولطيفة..
قالت بنبرة طفولية عذبة :
ـ أنت مثل "بابا".. كلما جلس وحده يبكي!..
آه يا صغيرتي.. الكون كله يبكي..
كيف نصنع لكم عالماً بلا أحزان؟
وسألتها باهتمام وأنا أتأمل ملامحها البريئة :
ـ ماذا تفعلين عندما تشاهدينه يبكي؟
ابتسمتْ وقالت وهي ترنو إليَّ في حياء :
ـ أمسح له دموعه ، و أحضر له كأس ماء..
طبعتُ على جبينها قبلة ، وقلت :
ـ أحسنت أيتها الطفلة الطيبة.. ما اسمك؟
التقطت كرتَها بعيون فرِحة ،
ثم قالت وهي تنطلق في مرح :
ـ اسمي أحلام.


المشاركات الشائعة