ابحث في الويب



رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 19-21



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء




۞ الفصل التاسع عشر ۞


وصلت إلى دار الحنان للأيتام ، واندفعت إلى الداخل بخطوات سريعة ، لأواجه الآنسة نورا بشكوكي ، وأفجر الاعتراف في فمها المغلق..
صادفت العم محمود في طريقي فنظر إلي في دهشة ، ورحب بي ترحيبا باردا لا يخلو من الدهشة!.. منذ قليل كنت معه ، فماذا عدت؟ سؤال منطقي لا ألومه عليه ، جاملته بتحية سريعة ، وانعطفت إلى ممر جانبي حيث تقع القاعة الثالثة التي تشرف عليها نورا ، دخلت القاعة ، فلم أجدها ، وجدت مشرفة أخرى!..
أدركت أن الآنسة نورا ما تزال في غرفة المديرة ، الحديث الغامض الذي دفن بالصمت عندما دخلت على المديرة آخر مرة ، أوحى لي بأن المديرة قريبة من نورا ومطلعة على أسرارها..
طرقت باب المديرة ودخلت ، لا يوجد في الغرفة سوى المديرة!.. حدجتني المديرة بنظرة تفيض بالدهشة والغضب ، سألتها دون مقدمات:
ـ أين أجد الآنسة نورا؟
ـ ماذا تريد منها؟
ـ موضوع خاص..
قالت بنبرة فيها جد وصرامة:
ـ دكتور.. أرجو أن تلاحظ بأن هذه مؤسسة رسمية ، والتردد عليها دون مبررات واضحة شيء غير مستحب!.
صدمتني المديرة بكلماتها ، ووقفت حائرا لكن فضولي دفعني للمغامرة..
ـ سيدتي إني أتفهم كل ما تقولين ، لكني مصر على مقابلة الآنسة نورا..
ـ الآنسة نورا مجازة.
ـ مجازة؟!.. متى تعود؟.
ـ قد لا تعود..
ـ لكنك قلت بأنها مجازة!
ـ هي مجازة لدراسة إمكانية استمرارها في الدار أو عدمه.
ـ لماذا؟..
نفذ صبر المديرة ، قالت وهي ترمقني بنظرة قاسية:
ـ لديها ظروفها.. هل من خدمة أخرى؟..
غادرت غرفة المديرة مهزوما ، أكابد شعورا مزعجا بالخيبة والإخفاق ، هل أصل إلى طرف الخيط ثم يضيع مني؟.. لا أستطيع التسليم بهذه النتيجة!.. وجدت العم محمود جالسا أمام الباب يتفحصني بنظرة متطفلة تريد أن تفهم سر تصرفاتي..
"
آه.. العم محمود يمكن أن يساعدني"..
هذا ما خطر لي ، وأنا أتجه نحوه ، قلت له وأنا أقف أمامه كالحائر:
ـ عم محمود.. أريد أن أقابل الآنسة نورا ، كيف السبيل إلى ذلك؟
أجاب العم محمود بلهجة صادقة:
ـ الآنسة نورا غادرت الدار منذ ساعة تقريبا ، بعد خروجك بقليل.
ـ هل تعرف عنوانها؟
ـ لا أحد يعرف عنوانها ، إنها مشرفة جديدة ، ولا نعرف الكثير عن حياتها خارج الملجا.
هذه معلومة جديدة!. إذا كانت نورا حديثة العهد بالدار ، فلماذا تفكر في ترك العمل. هل أكون أنا السبب في خشية نورا من الاستمرار؟..
أردت أن أكشف بعض الغموض الذي بدأ يزداد ، سألت العم محمود وأنا أجلس بجانبه:
ـ هل هي قريبة المديرة؟
ـ لا.. ليست قريبتها.. لكن المديرة تعاملها معاملة خاصة.
ـ لماذا؟!.
قال العم محمود وهو يبدي جهله ببواطن الأمور:
ـ كل ما أعرفه أن الآنسة نورا جاءتنا منذ أسابيع ، وطلبت مني أن أدلها على مكتب المديرة ، ثم دخلت عليها وجلست معها قرابة نصف ساعة ، نادتني المديرة بعدها ، وطلبت مني أن أدل الآنسة نورا على القاعة الثالثة ، لتستلم فيها عملها كمشرفة متطوعة.
أحسست أن المديرة تخفي أمورا دقيقة ، وتصدني عن بوابة الحقيقة بقسوة..
ضربت فخذي بكفي ، والغيظ يأكل صدري ، قلت بنبرة قهر:
ـ مديرتكم هذه قاسية وشديدة!..
قال العم محمود:
ـ هي شديدة كما تقول ، لكنها طيبة جدا.. أطيب امرأة شاهدتها في حياتي..
هتفت حانقا:
ـ لكنها لا تهضمني.. تضطهدني.. تعاملني بقسوة!.
ـ أنت مخطئ يا دكتور ، السيدة المديرة تحترمك جدا.
فاجأني بهذا القول! كيف تسنى للعم محمود أن يلاحظ هذا الاحترام ويستنتجه ، ومعرفتي بمديرته لا يتجاوز عمرها ساعات قليلة؟!..
ظننت أن العم محمود من النوع الطيب الذي يأخذ على عاتقه تبديد الشكوك بين الناس ، والتقريب بين النماذج المتنافرة ، نظرت إليه في دهشة ، لكنه أمعن في التأكيد ، وقال:
ـ بعد أن خرجت من هنا قبل ساعة تقريبا ، طلبت مني المديرة أن أحضر فنجاني قهوة ، لها وللآنسة نورا ، وعندما دخلت عليهما بالقهوة ، سمعت المديرة تقول للآنسة نورا:
"
هذا الدكتور إنسان نبيل فعلا ، كيف تخطر له طفلة كبارعة دون أن تمت له بقرابة أو صلة؟."
تساءلت في دهشة ، وأنا لا أكاد أصدق:
ـ أهي قالت ذلك حقا يا عم محمود؟!.
رمقني العم محمود في عتاب ، وقال:
ـ سامحك الله.. هل تعتقد بأني أخترع كلاما من عقلي؟
ـ عفوا.. لم أقصد.
قاطعني وتابع يروي:
ـ ردت الآنسة نورا على المديرة قائلة: "لأول مرة في حياتي أصدق بأن هناك رجلا طيبا في هذا العالم!".
تساءلت في حيرة:
ـ لماذا تظن الآنسة نورا بأني أول رجل طيب تصادفه في حياتها؟!..
ضحك العم محمود وقال:
ـ هي هكذا.. تكره الرجال وتحقد عليهم ، ولولا أني في سن والدها لم نجوت من معاملتها الفظة التي تعامل بها الرجال!.
أطرقت مستسلما لتيار من الفكر ، فانتهز العم محمود فرصة صمتي ، وغاب قليلا ثم عاد يحمل لي فنجانا من القهوة ، قال وهو يصل ما انقطع من حديثه:
ـ اطمئن يا دكتور.. المديرة طيبة جدا والآنسة نورا طيبة أيضا ، لكنها مسكينة.. لقد قابلت في هذه الدار مشرفات كثيرات ، فلم أجد فيهن من هي أكثر عطفا وحنانا على هؤلاء الأيتام.. إنها بنت رقيقة ، دمعتها غلابة تبكي لأبسط الأمور ـ كما لاحظتها اليوم ـ وهي تقضي وقتها في رعاية الأطفال ، ترعاهم وتهتم بهم وكأنهم أبناء رحمها ، وتحنو عليهم كأم رؤوم..
معلومات العم محمود قدمت لي أجزاء مهمة من الحقيقة ، ثمة بعض المعالم الضائعة التي تنقصني حتى تكتمل أمامي الصورة ، وتنسجم أجزاؤها المتناثرة ، وحضرني سؤال:
ـ ألم تلاحظ بأن الآنسة نورا كانت تهتم بطفل أو طفلة دون غيرها من الأطفال؟..
رفع العم محمود حاجبيه دهشة ، وقال:
ـ هذا سؤال لم يخطر لي ببال..
ثم أردف في حيرة وقد لاحت في نظارته بوادر شك:
ـ ولكن.. لماذا تسأل كل هذه الأسئلة؟
ـ أسئلتي تجاوزت حدود المعقول. بدأت تثير فضول العم محمود وشكوكه.. شعرت بأن أزمة ثقة توشك أن تنشب بيننا ، بيد أني ارتحت قليلا عندما أدركت أن تفكير العم محمود ذهب باتجاه بعيد..
قال العم محمود وهو يميل نحوي كمن يناجي صديقه بسر:
ـ هل في الأمر موضوع خطبة أو زواج؟..
استفدت من هذا الاتجاه الخاطئ ، الذي فكر به العم محمود ، فقلت وأنا أهم بالنهوض:
ـ لا أحد يعرف أين يكون النصيب يا عم محمود!.
انفرجت أسارير العم محمود ، ورفت على شفتيه ابتسامة وادعة ، ثم همس في أذني بنبرة ودودة:
ـ لقد أحسنت الاختيار ، أنت تستحق كل خير.
شكرت العم محمود ، وغادرته بسرعة قبل أن يقذفني بسؤال آخر..
بت الآن أكثر اقتناعا بأن نورا هي والدة الطفلة اللقيطة ، ولكن.. أين نورا؟!..


۞ الفصل العشرون ۞

قضيت بقية النهار بنفس عاث فيها الكدر ، وتنازعتها الأسئلة والأفكار ، فتمزقت بين الشوق إلى أحلام التي غابت فجأة دون سبب مفهوم ، والتفكير بنورا المغلقة بالغموض!. وشعرت بحاجة ملحة للوحدة والراحة والاسترخاء ، لكن كثرة الحالات التي وردت إلى قسم الطوارئ لم تسمح لي بوقت هادئ ، وحانت فرصة الأصيل ، فحملت جهاز الإنذار الذي يصلني بالمستشفى ، ومضيت إلى الحديقة ، لألقي بجسدي المتعب فوق صدرها الأخضر الموشى بالأزاهير

ثمة عصفور زاهي الألوان يلجأ إلى الحديقة مثلي.. يزورها بين الحين والحين.. ينتقل بين أغصانها المتعانقة ، ويعزف ألحانا عذبة تنساب من منقاره الدقيق لتطرب القلوب والأسماع. أين أنت يا عصفوري الجميل؟.. هلم إلي لتثري هذا الأصيل بلحن عذب من ألحانك الرقيقة.. الصمت الثقيل يحول هدوء الحديقة إلى طقس من طقوس الموت.. هلم يا صديقي الطائر ، تعال وغرد ، وبدد بألحانك الجميلة هذا الصمت الذي يكتم الأنفاس!..

ـ وست وست.. وس وس وس وست..

ها هو صديقي العصفور قد جاء ، وفي صدره باقة جديدة من الألحان ، جاء في الوقت المناسب وكأن روحه الصغيرة قد أصاخت السمع لاستغاثات روحي ، فاستجابت لندائها الصامت م حديث الأرواح لا تسمه إلا الأرواح الصديقة الودودة..

تعال أيها العصفور لنعقد صداقة من نوع فريد..

ـ وست وست..

هل أفهم من هذه الجملة الموسيقية أنك موافق؟!..

ـ وست وست..

موافق إذن ، لكنك ـ للأـسف ـ لن تفهمني!.. ما قيمة الصديق إذا لم يفهم صديقه ، ويستشف ما وراء صدره من آلام وأحلام!؟.. إذا بحت لك أيها العصفور بما يثقل صدري ، لظننتني أغرد مثلك على طريقة البشر؟.. ليت العصافير تتكلم مثلنا.. تحدثنا ونحدثها.. نبثها أحزاننا ، ونشكو لها آلامنا.. نبوح لها بما يؤرقنا.. نبوح بطلاقة وحرية دون أن تثقل بوحنا المخاوف والمحاذير والاعتبارات البشرية المعقدة.. نبوح وكأننا نتحدث مع أنفسنا ونخاطب ذواتنا..

آه من هذا العالم. نضب منه الأصدقاء ، غاروا كالماء الذي ينسرب في رمل الصحراء ، هل تفهم يا عصفوري معنى أن يبحث إنسان عن صديق له في عالم العصافير؟ لن تفهم.. خير لك أن لا تفهم ، فروحك الصغيرة لن تتحمل الحقائق المرة التي تقذف بها الحياة أرواحنا المتعبة ، لن تطيق ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. روحك الصغيرة أيها العصفور الصغير الوديع سترفض عالمنا المريض الذي سادته الذئاب.. ستنفجر وتتمزق وهي ترى الوجه الآخر لحضارة المادة. ستستعذب الموت على حياة أقفرت من القيم ، وتحجرت فيها المشاعر ، ونعقب فيها الغربان..

ظن العصفور أني أداعبه بهذه الكلمات ، فدب فيه المرح ، وجعل يقفز من غصن إلى غصن ، وهو يغرد مزهوا بنفسه ، فتركت مسامعي تغتسل بغنائه العذب وبالغت في الاسترخاء..


ثمة صوت آخر غرد في سمعي فجأة ، فأيقظت همساته الرقيقة قلبي ، وحركت في نفسي أشواقا لذيذة. نهضت واستدرت برأسي نحو مصدر الصوت ، ثم هتف كالملوف الذي العطش:
ـ أحلام!!.. أهلا بك..
لهفتي وجدت صداها على الفور ، قالت وهي تداعب بين أناملها الرقيقة وردة حمراء اللون:
ـ كنت أعرف أني سأجدك هنا.

سألتها في عتاب رقيق:
ـ لماذا غبتِ؟.
ـ لعلك تقصد لماذا أتيت؟
ـ حقا!.. فهمت أنكِ لن تأتي اليوم.

اختارت أحلام كرسيا قريبا من الكراسي المتناثرة في أرجاء الحديقة ، فجلست عليه..
ـ أما لماذا غبت اليوم فلست أدري السبب!.. شعرت هذا الصباح بكآبة ممضة ، ولم أجد في نفسي حماسا للعمل ، فاعتذرت عن الحضور.
ـ ثم قطعت إجازتكِ فجأة!..
ـ هذا ما حدث.. حاصرني ملل وضيق ، فأحسست بأن جدران البيت تلفظني ، فلجأت إلى المستشفى لأبدد الفراغ بعمل مفيد.

قلت وأنا أتربع فوق بساط الحشيش الأخضر:
ـ لقد كان هذا اليوم صعبا عليَ أيضا.
ـ قالوا لي : أنك غادرت المستشفى مرتين هذا الصباح ، وأخبروني بأن هاني كان غاضبا جدا.

ضحكت..
ـ لقد قسوت عليه فعلا ، اغتصبت من وقت راحته أكثر من ساعتين ، لكني وعدته أن أناوب عنه في مناسبة قادمة.

سألت أحلام:
ـ هل وردت اليوم حالات كثيرة..
ـ كان الصباح هادئا كما أخبرني هاني ، لكن ساعات الظهر كانت حافلة بالعمل.. استقبلنا ثلاث حوادث طرق في أقل من ساعة!.

قالت وهي ترنو إليّ في إشفاق:
ـ تبدو متعبا جدا..
ـ لم يكن معي سوى طبيب واحد كيف لا أتعب؟.
ـ وعندما هدأت الحركة جئت إلى هنا.. مثل كل مرة!.

شملت الحديقة بنظرة باسمة ، ولم أنبس ، أردفت أحلام:
ـ أنت دائما تهرب إلى هنا!. ما الذي يشدك إلى الطبيعة إلى هذا الحد؟
ـ البحث عن السلام.
ـ وهل وجدته؟
ـ وجدت منه قطرات لا تسمن ولا تغني من جوع.
ابتسمت أحلام ، وطافت بنظراتها في أرجاء الحديقة ، كان العصفور قد ابتعد ، والشمس قد توارت خلف جدار الأفق ، والصمت قد ران من جديد..

قالت أحلام:
ـ ألا يزعجك هذا الصمت..
ـ ثمة عصفور لطيف يتردد إلى الحديقة من حين لآخر ، ويسليني بألحانه العذبة..

رنت إلي وقالت:
ـ عصفور واحد لا يكفي.. مهما غرد فستبقى ألحانه حزينة ، تملأ النفس بالشجن ، وتحرك في الأعماق الظمأ إلى صديق أنيس..
ـ حاولت أن أعقد معه صداقة فلم أفلح!..
ـ ليست كل الصداقات تغني..
ـ لو رضي العصفور بمصادقتي ، لوجدت في صداقته ما يغنيني!..

همست أحلام بنبرة غلت عليها الود:
ـ هل ضن عليك الناس بصديق حتى ذهبت تطلب أصدقاءك في العصافير؟..

لذت بالصمت ، هذه هي الحقيقة ، إني أفتقد إلى صديق..

لم يعجبها صمتي ، قالت بلهجة عاتبة:
ـ يعني لم تجب!.
ـ صمتي كان هو الجواب.
ـ جوابك فيه بعض المبالغة..
ـ هل تقصدين أني يمكن أن أفوز بالصديق الذي أرجو؟

قالت وهي تغض طرفها في حياء:
ـ انظر حولك..

في كلماتها رسالة واضحة التقطتها بسرعة. ركبني حرج وارتباك. لكني تجاهلت المعنى الذي أرادته أحلام ، وتحايلت عليه بالدعابة ، فأخذت أتلفت حولي متصنعا السذاجة وعدم الإدراك ، فرنت إلي بنظرة باسمة:
ـ ليس بعينيك يا دكتور..
ـ بم ينظر الناس إذن؟
ـ بقلوبهم!.
ـ لم أقرأ في كتب التشريح أن للقلب عيونا!..
ـ لأنك لا تقرأ إلا السطور..
ـ وهل تخفي السطور خلفها غير السطور؟!..
أجابت وهي تمس وجنتها بوردتها مسا خفيفا:
ـ خلف السطور كلمات ومعان لا تخفى على لبيب مثلك.

قلت وأنا أمعن في الهروب:
ـ ذكائي يخونني في كثير من الأحيان..

البسمة الوادعة التي كانت تضيء وجهها الجميل أَفَلَتْ فجأة ، وخبت ومضات الفرح التي كانت تشع من عينيها ، لم تتوقع أن أقابل لعبتها الذكية بهذا البرود. صمتت وأطرقت إطراقة المحزون ، وتململت فوق ثغرها ابتسامة باهتة تحتضر. وتشاغلت بتأمل وردتها ، فاحتوتها بنظراتها الحزينة ، وكأنها نظرات محب يودع حبيبه الوداع الأخير.. حزنها أصابني بالغم ، قلت في محاولة لتبديد الأثر السيئ الذي خلفه الحديث السابق:
ـ هل تذكرين الطفلة اللقيطة؟

أجابت وهي مطرقة تدق الأرض برأس قدمها:
ـ ما شأنها؟
ـ لقد زرتها هذا الصباح.
ـ رفعت إليّ نظرات متسائلة وهمست:
ـ ما الذي دعاك لهذا؟
ـ طافت ذكراها ببالي ، فأحببت أن أطمئن عليها.

قالت أحلام ، وهي تفسح الطريق لابتسامتها الفاتنة لكي تعود لتضيء أسنانا كاللؤلؤ:
ـ فضولك يثير الفضول!
ـ حقا؟!
ـ كيف هي؟
ـ بصحة جيدة..
ـ لابد أنها تلقى رعاية ممتازة..
ـ كيف لا تلقى رعاية ممتازة ، وهي تنمو في أحضان أمها الحقيقية؟

حدجتني أحلام بنظرة ملؤها الدهشة:
ـ هل قلت أمها الحقيقة؟!!.
ـ أجل.. هذا ما يغلب على ظني..

ووريت لأحلام قصة الآنسة الغامضة نورا ، وحدثتها بآخر ما توصلت إليه من استنتاجات..

قالت أحلام ، وقد عادت إليها ابتسامتها الوادعة اللطيفة:
ـ اهتماماتك يا دكتور تدعو للاحترام..
ـ هذا ثناء لا أستحقه..
ـ أبدا. هذه كلمة حق.
ـ يزعجني أحيانا أن ننظر إلى الواجب على أنه تطوع نبيل..
ـ في زمن قل فيه حرص الناس على واجباتهم ، يصبح مجرد أداء الواجب إنجازا رائعا يستحق التقدير..
ـ لا معنى للحياة إذا لم يعشها أحدنا كإنسان..

تنهدت وأرسلت إلى الأفق رنوة حالمة ، ثم قالت:
ـ إني أبحث عن ذلك الإنسان!..
ـ وهل وجدتِه؟!..

أرسلت زفرة ساخرة ، وقالت في تحسر:
ـ وجدته. وجدته منذ زمن بعيد ، لكنه يمعن في الهروب مني.. يحاول أن يضلل خطواتي.. أمد له يدي ، فيخفي يديه.. أعترف له بودي ، فيصفعني بجفائه.. لكأنه يرفضني ، ويغلق قلبه في وجه روحي..


ما الذي يمكن لفتاة عفيفة أن تفعله حتى تعلن حبها دون ابتذال؟.. ماذا تفعل فتاة رفضت كل الناس من أجل فتاها الذي اختارته وأغلقت قلبها على حبه ، ثم لا تجد منه سوى الصد والهروب والتجاهل؟!..


لقد ضاقت أحلام ذرعا بترددي وهروبي ، وها هي تتهيأ للاقتحام. تحاول أن تدك أسوار الحيرة التي تفصل بيني وبينها. لم أستطع أن أرفع نظراتي إلى عينيها اللتين كانتا تلهبان لوما وعتابا.. ماذا أقول لها؟.. هل أعترف له بالحب الجارف العميق الذي يضطرم في صدري؟.. أم أكتم هذا الحب وأقمعه حتى لا أتورط في شراكة غير متكافئة وزواج يبدو لي أنه محكوم بالموت؟!.. من قال بأن الحب يخضع لحسابات المادة؟.. من الذي زرع هذه الخرافة فينا؟.

هزت أحلام رأسها في حزن ، وقالت كاليائسة:
ـ من الحكمة أن يرضى الإنسان ببعض الحقائق المؤلمة ف هذا العالم..

أثارت كلماتها في نفسي شعورا غريبا فقلقل هدوئي.. شعور من أوشك على فقد عزيز.. وخشيت أن تكون أحلام قد يئست مني ، وفهمت مشاعري على نحو خاطئ ، سارعت إلى تبديد فهمها الخاطئ ، فقلت وأنا أتهرب من نظراتها العاتبة الحزينة:
ـ أحلام. أنت تستعجلين الأمور.

لم تكترث بكلامي. سألت فجأة:
ـ هل قرأت عن خديجة؟
ـ بنت خويلد؟
ـ أجل. زوجة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـ قرأت.
ـ ماذا فعلت عندما أحبت محمدا؟

ـ أرسلت إليه من يخبره بأنها تحبه.
ـ ماذا لو أقدمت فتاة على فعل هذا الفعل في مجتمعنا اليوم؟
ـ نحن في عصر مختلف..

قالت في إصرار:
ـ نعم. نحن في عصر مختلف ، لكن المرأة والرجل ما زالا هما كما كانا أول مرة. الشفرات الوراثية لا تؤمن بالعصور.. إنها رسالة خالدة منذ الأزل.. رسالة ثابتة تحمل خصائص الأنثى وخصائص الذكر.. الظروف تختلف ، ووسائل الحياة تتبدل ، لكن جوهر الإنسان ثابت لا يتغير..

إنها محاورة عنيدة تعرف ما تريد!.. هذه المناظرة الفكرية بدأت تفسد جمال الأصيل. لابد أن يصل الحوار إلى نهاية مفيدة ، ولكن.. هل ستنتصر علي بالضربة القاضية ، وتعلن حبها لي في صراحة حاسمة؟.. هل ستتراخى إرادتي وتسمخ للحب الذي يشتعل بين ضلوعي أن يفصح عن نفسه ، ويتحدى كل معادلات العقل الذي يقف حاجزا بيني وبين من أحب؟!.. أيتها الفتاة الرقيقة التي وضعها القدر في دربي.. دعيني أفكر في قراري بهدوء. لا تلجئيني إلى قرارات حظ القلب فيها يفوق حظ العقل..

وأدركت بأنه لا مفر من المواجهة ، فوجدتني أسألها فجأة بلا مقدمات:
ـ ماذا عن هاني؟

فوجئت بسؤالي ، قالت بلا تردد:
ـ لقد اعتذرت له.
ـ إنه أقدر على إسعادك.
ـ لماذا تعتقد ذلك؟
ـ لأنه أقرب إليك طبقيا.

تعكرت ملامحها بحمرة الغضب ، قالت بحدة:
ـ لم أتوقع منك أن تفكر بهذه الطريقة!..
أربكني العتب الذي أطل من عينيها ، قلت موضحا:
ـ المادة تلعب دورا حاسما في حياتنا ، شئنا أم أبينا.

رفعت رأسها في كبرياء وقالت بثقة:
ـ أنا لا أبحث عن المادة.
ـ قد لا تبحثين عنها ، لكنك لن تستغني عنها..

هتفت في إصرار:
ـ بل أستغني عن كل أموال الدنيا وجواهرها من أجل أن أفوز بإنسان نبيل يفهم الحياة كما أفهمها.. بمعانيها السامية وآفاقها الرحيبة.. الحياة النظيفة الرفيعة التي تليق بإنسان له عقل وقلب وروح.. لا حياة الحيوانات الشاردة في الغابة التي تحركها الغرائز والأطماع. لقد ذقت سعادة المادة فلم أجد لها طعما!. خذ كل ملاييني وأملاكي ، وأعطني كلمة حنان صادقة تشعرني بأن من حولي بشر أسوياء ، وليسوا تماثيل أو آلات مبرمجة تؤدي دورا رتيبا محددا لم يخلق له الإنسان.. نعم.. البشر من حولنا تحولوا اليوم إلى آلات تتحرك وفق برنامج مرسوم.. برنامج كبرامج الكمبيوتر التي يزود بها الإنسان الآلي .. هذا البرنامج يحمل رسالة واحدة.. رسالة تتلخص بكلمتين: اكسب أكثر.. اربح أكثر.. اجمع أكثر.. بأية وسيلة؟.. لا يهم.. على حساب من؟.. لا يهم.. على أشلاء من؟.. لا يهم.. الحياة فرصة فاهتبلها.. احصد الفرص فقد لا تعود.. لا يهم من زرع ، المهم من يحصد في النهاية.. الشاطر من يضحك في الآخر.. هكذا نحن الآن.. حصادات بشرية عمياء.. لا تعرف على ماذا تدوس ، لكنها يجب أن تصل إلى نهاية الشوط وقد جمعت أقصى ما أمكنها من الحصاد..

كانت أحلام تتحدث بتدفق وحماس.. وكان جوهرها النقي يتوهج بالصدق ويلمع بالبراءة.. شعرت وأنا أستمع إليها بأني أمام ملاك طاهر يحمل رسالة السماء إلى الأرض.. أمام داعية جليل ألقى الدنيا خلف ظهره ، وجاء يبشر بعالم فاضل لا تستعبده المادة.. رنوت إليها بنظرات ولهى تفيض بالوجد ، ورحت أصغي إليها وهي تتابع هدرها العذب.

كانت تقول وهي في ذروة الانفعال:

ـ لو كانت الملايين تصنع السعادة ، لكنت أسعد فتاة أنجبها أب ، لكن كل الملايين التي تنتظرني.. كل العقارات والشركات والأملاك التي ستؤول إلي.. كل هذه الثروة العريضة التي يجنيها لي أبي ، لا تساوي عندي كلمة حب خالصة منزهة عن المصالح والرغبات.. ثم صمتت أحلام ، وجعلت ترتعش من فيض التأثر والانفعال ، ولم تلبث أن انفجرت باكية ، فأخفت وجهها الباكي خلف كفيها ، وبقيت كذلك برهة ريثما هدأت ، ثم انزلقت بكفيها ، فأسفرت عن وجه مخضل غسلته الدموع ، وقد أغمضت عينيها إغماضة من ينشد الراحة والخلاص ، وألقت برأسها إلى الخلف ، فبدت كعابدة متبتلة تستغرق في خشوع عميق..

أدركت أخيرا بأني أسير يحاول عبثا أ ن يهرب من قدره.. عاشق يقمع صوت قلبه بقسوة.. مكابر عنيد يذوب حبا ويأبى أن يعترف.. من يستطيع أن يصمد أما فتاة لها رقة الأنثى وروح الملائكة؟!..

قالت وهي تستيقظ من إغماضتها الخاشعة:
ـ أنت تفهمني.. أليس كذلك يا دكتور صلاح؟

قلت وأنا مستسلم لطغيان حبها الجارف:
ـ هل تعتقدين أن أباك سيوافق على زواجنا؟

أشرقت عيناها بنظرة باسمة يتألق فيها الفرح ، فقد أدركت أني لم أخذلها ، فاحمرت حتى حاكت حمرتها الفاتنة لون وردتها الجميلة ، قالت وهي توشح كلماتها بابتسامة وادعة تنطق بالرضى:
ـ أحقا.. أحقا أنت تبادلني نفس المشاعر؟!..

أجبتها بابتسامة مطمئنة ، وقلت:

ـ أريد أن أعرف رأي والدك..
ـ أنا لا أعرف رأي والدي ، لكني أنا التي سأتزوج وأنا صاحبة القرار..
ـ الأمور في مجتمعنا لا تجري بهذه البساطة..
ـ سأمهد للأمر مع أبي..
ـ وإذا رفض؟
ـ سأرفض رفضه..
ـ وإذا رفض؟!..

رمقتني بطرف عينيها ، وتساءلت:
ـ هل هذا هو سبب ترددك؟
ـ أريد أن أعد للأمر عدته..

دمعت عيناها وقالت مشفقة:
ـ لابد أن ينتثر الحب في النهاية..

علقت كالحالم:
ـ ليت الحب ينتصر في هذا العالم!..

تساءلت وقد عاثت في عينيها نظرة متوجسة:
ـ هل يمكن أن يقف أبي في وجه سعادتي؟..
ـ قد يقاوم اختيارك باسم مصلحتك ومستقبلك!..

قالت في ضراعة:
ـ صلاح.. أرجوك.. لا تعكر هذه اللحظات الرائعة بالهواجس المزعجة..
ـ ما زلت أريد أن أعرف..
ـ ماذا؟..
ـ ماذا لو كان رفض أبيك قاطعا؟!..

اربد وجهها فجأة ، وغشيته كآبة خفيفة ، ولم تلبث أن نهضت ودارت حول كرسي الحديقة الذي كانت تجلس عليه ، وقالت بعد صمت وتفكر ، وقد لمعت عيناها بأنداء من الدمع:
ـ صلاح.. إذا لم يوافق والدي على زواجي منك ، فلن تجمعني الحياة برجل من بعد..

ثم استدارت نصف استدارة ، وجعلت تداعب غصنا قد تدلى من إحدى الأشجار ، وكأنها تداري حياء وانفعالا جديدا أججته كلماتها المفعمة بالإخلاص ، وران علينا صمت لذيذ ، وهبت على الحديقة نسمات ربيعية رقيقة ، تهمس لنا بقصيدة لم يلقها شاعر ، ولم يغرد بها عصفور


۞ الفصل الحادي والعشرون ۞

أخرجت البطاقة التي أعطتني إياها أحلام ، وأعدت قراءة عنوان شركة أبيها.. شركة عبد الغني الذهبي للتجارة العامة ـ شارع البرج ـ عمارة البرج الأزرق. روحت أبحث عن البرج الأزرق الذي يضم مكاتب الشركة بعينين مستطلعتين ، لم أعرف في البداية سبب تسمية هذه العمارة بالبرج لكني عندما وصلت إليها ، أدركت سببا لهذه التسمية!.
كانت عمارة شاهقة ترتفع كأسطوانة هائلة مثمنة المحيط ، تصل بين أضلاعها الثمانية ألواح كبيرة من زجاج خاص. وكان خيال السماء ينعكس على ألواح الزجاج ، فيشملها بزرقة داكنة ، تعطي المبنى مظهرا بديعا وروعة لا تنكر..
"
لابد أن الذي يستخدم مثل هذا البناء الفخم مقرا لشركته ، يدير أعمالا واسعة تحتاج إلى جيش من الموظفين!.".. هكذا حدثني نفسي وأنا أقرأ اسم الشركة الذي كتب بأحرف برونزية نافرة..
وقفز إلى ذاكرتي حديث أحلام عن مسؤولية والدها عن حادث انهيار العمارة السكنية ، فدخل في روعي أن هذا البناء العتيد يقوم على أشلاء الضحايا وجماجم الأبرياء الذين ذهبوا ضحية الجشع البغيض ، والأنانية الكريهة..
أوقفت سيارتي في مكان قريب ، ثم ترجلت منها ، ووقفت أتأكد من سلامة هندامي ، ثم تقدمت من مدخل البرج الأزرق بخطوات بطيئة..
ثمة شيء كان يجذبني إلى الخلف بقوة ، يعرقل خطواتي ، يزلزل كياني ، يهزني بعنف ، يسألني بلهجة لوامة تنطق بالاتهام : "إلى أين أنت ذاهب؟.. تضع يدك في يد مجرم لتخطب منه ابنته؟.. أأعمال الحب عن حقيقة هذا الرجل؟.. أم هو الطمع وبريق الثروة والغنى والمال؟..".
تسمرت في مكاني ، وكادت إرادتي تتهاوى ، لكن طيف أحلام شد من أزري ، وعزز ثقتي بما عزمت عليه ، هدرت في أغواري وكأني أحاجج خصما قاسيا يحدجني بنظرات ملؤها الشك والريبة : "بل جئت لأنقذ أحلام من الوحل الذي نبتت فيه.. جئت لأحمي هذه الفتاة الطاهرة الرقيقة من الريح المجنونة التي تحطم الأغصان الخضراء وتعصف بها.. جئت لأحملها إلى عالم الطهر والبراءة الذي تحلم به.. فلتذهب ملايين أبيها إلى الجحيم.. لا أريد منه سوى قلب ابنته النبيل الذي يخفق بمشاعر الإنسان.. لا أبتغي سوى أحلام التي لم تستطع المادة أن تقتل روحها ، وتلوث جوهرها..".
عاد ذلك الخصم العنيد يمطرني بأسئلته ، وأطلق في أعماقي ضحكة مجلجلة تسخر من كل المبررات التي تدفعني للإقدام على خطبة أحلام.. كدت أضعف ثانية!.. راودتني نفسي على الانسحاب ، لكن كلمات أحلام اندلعت في ذاكرتي فجأة ، ووضعت حدا لهذا التردد الذي اعتراني.. "صلاح إذا لم يوافق أبي على زواجي منك ، فلن تجمعني الحياة برجل من بعدك..".
ملأتني كلماتها بشحنة جديدة من الثقة والحماس ، تخيلت نفسي فارسا عنيدا جاء ينقذ فتاة من الأسر ، وكدت أهتف كما في الحكايات "لبيك يا أميرتي.. ها أنا قد جئت على صهوة جوادي لأقتحم هذه الأسوار ، وأحملك معي إلى دنيانا الجديدة..". لكن رجلا كان قد خرج لتوه من الشركة ، صدمني فجأة ، فانتشلني من أوهام الخيال ، وأعادني إلى دائرة الوعي ، ثم ما لبث أن اعتذر قائلا وهو يعض على فوهة غليونه بأسنانه البيضاء: "سري.. آسف"!.
ابتسمت لهذا الاعتذار المشفوع بالترجمة العربية ، وتقدمت من الباب ، فانفتح بشكل آلي. حكاية علي بابا لم تكن خرافة إذن!!.. كانت تنبؤ ذكيا بالمستقبل! هاهو الباب يفتح لي حتى دون أن أهمس له بكلمة السر ، انفتح دون أن أقول له : "افتح يا سمسم".
اتجهت إلى مكتب الاستعلامات ، فوجدت فيه موظفا وسيما يرتدي بذلة أنيقة جعلتني أشعر بالخيبة.. متى يفرغ الناس لشراء هذه الملابس المسرفة في الأناقة؟ وأين يجدونها؟ لعلهم يستوردونها خصيصا.. ما علينا.. بذلتي أنيقة أيضا.. لا تشكو من شيء ، لكني أعترف بأنها أقل أناقة من بذلة موظف الاستعلامات! قلت في نفسي: "لعل مهمة موظف الاستعلامات تستدعي هذا المظهر المسرف في الأناقة لأنه أول من يستقبل العملاء والزوار الذين يقصدون الشركة".
سألته عن مكتب السيد عبد الغني الذهبي صاحب الشركة ، فأجابني بلسان إنكليزي مبين : "نمبر سفن".. ما بال الناس يستثقلون استعمال لغتهم العريقة التي تتربع على عرش اللغات!.. شكرت الموظف بإيمائة مجاملة ، ومضيت إلى المصعد ، فانتظرت هبوطه حتى يحملني إلى الطابق السابع لأقبل السلطان ، وأسأله يد أميرتي الأسيرة.. ولكن.. لماذا اختار والد أحلام الشركة مكانا للقائنا؟.. هذه المناسبات ـ فيما أعلم ـ لا تناقش في أماكن العمل.. تراه هل سيوافق على زواجنا؟ أم أنه.. آه.. لعله اشترط أن يلقاني في الشركة ، ليصارحني يرفضه.. وشعرت برجة عنيفة بين الضلوع.. أتضيع مني أحلام بعد أن أودعت كل آمالي على أعتاب قلبها الكبير؟!.. ورحت أرمق اللوحة الرقمية التي تعلو بوابة المصعد بغيظ. كانت الأرقام تمضي في عدها التنازلي ببطء شديد. 6، 5، 4 ... ها هو المصعد يتوقف عند الطابق الرابع.. أسرعوا أيها الركاب ، فها هنا قلب يتمزق بين الهواجس والآمال.. ارحموا هذا القلب الولهان الذي يتطلع إلى مصيره بقلق ، لم يستجب المصعد لتوسلاتي ، قفز إلى الطابق السابق فجأة ، في حركة غادرة ، لبث في السابع قليلا ثم عاد يهبط ببطء مثير... 7، 6، 5، 4، 3، 2 ..... آه ها قد وصل. أسرعت إليه ، فانطلق بي على مهل. كانت مرآة المصعد وسيلة مفيدة للتأكد من سلامة هندامي. كل شيء على ما يرام ، عريس بدرجة مقبولة. هذا قصارى ما كنت أحلم به.. ثمة راكب اعترض مسيرة المصعد في الطابق الخامس.. أهلا وسهلا.. تابع المصعد طريقه إلى الطابق السابع ، فلفظني هناك ، ثم أغلق بابه خلفي وعاد يتابع رحلته المكوكية التي لا تنتهي..
اقتربت من مكتب السيد عبد الغني بخطوات بطيئة يثقلها قدر من الحياء ، ومقدار من الرهبة والتردد ، استقبلتني فتاة جميلة ، أنيقة الملبس ، فاتنة البسمة ، سألتني وهي تقضم قطعة بسكويت وتغيبها خلف شفتيها الغارقتين في حمرة كفثية:
ـ هل من خدمة؟
ـ أنا الدكتور صلاح الحكيم.. أريد مقابلة الأستاذ عبد الغني..
هتفت السكرتيرة بلهجة مرحبة أحسست أن فيها قدرا كبيرا من المبالغة:
ـ أنت؟!.. أهلا.. أهلا وسهلا.. تفضل بالجلوس..
جلست وأنا مندهش من هذا الترحيب الذي يشي بإطلاعها على دقائق الأمور ، قالت:
ـ أنت دقيق في مواعيدك كما وصفك لي السيد عبد الغني..
سررت لأن صورتي في ذهن والد أحلام صورة مشرقة ، لابد أن أحلام هي التي أوحت له بها..
شعرت بشيء من الارتياح وجلست أنتظر..
غابت السكرتيرة قليلا ، ثم عادت تحمل فنجانا من الشاي ، وانحنت لتقدمه لي.. تناولت الفنجان وشكرتها ، وأنا أغض الطرف عن صدرها الذي بدا من تحت سترتها الواسعة عاريا صارخا الفتنة. لم تعد ملابس اليوم كافية لستر مفاتن المرأة!.. يبدو أن عباقرة الموضة يقتصدون في استعمال القماش ، ليوفروا منه بعض ما يلزم لتمدين العراة في مجاهل أفريقية!.. صبرت على ما رأيت ، وقمعت شحنة الإثارة التي سرت في جسدي إزاء هذا المنظر ، ورحت أحتسي الشاي في صمت ، وأنا مشغول البال باللقاء المرتقب..
قالت مضيفتي وهي تلف رجلا شبه عارية على رجل:
ـ لقد حدثني عنك السيد عبد الغني قبل قليل عن موعده معك ، وطلب مني أن أخبرك بأنه مشغول مع بعض الخبراء الأجانب وأنه مضطر لتأخير موعده معك حوالي نصف الساعة..
أزعجني تأخير الموعد ، لكني عذرت الرجل ، فرجال الأعمال معرضون لمثل هذه الاجتماعات الطارئة!.
كانت نظرات السكرتيرة الفاتنة تقتحمني بجرأة وقحة ، مما جعلني أشعر بالارتباك ، لكني تشاغلت عنها بتأمل لوحة جميلة معلقة على الحائط المغلف بورق الجدران النفيس ، ابتدرتني السكرتيرة قائلة:
ـ أنت طبيب طبعا..
ـ هذا صحيح.
ـ تعمل في نفس المستشفى الذي تعمل فيه أحلام.
ـ كيف عرفتِ؟
ـ السيد عبد الغني لا يخفي عني أمرا.. أنا سكرتيرته وأمينة أسراره.
ابتسمت ولم أنبس.. هذه الآنسة أو السيدة ـ لا أدري ـ تحب الثرثرة ، ولا أريد أن أخوض معها في حديث لا طائل وراءه ، فأنا بحاجة إلى بعض الهدوء والتركيز في هذه المناسبة الحاسمة في حياتي.
لكنها تابعت تقول:
ـ قلت لي طبيب إذن..
ـ لعلك تشكين بذلك!.
ضحكت في دلال ، وقالت:
ـ لا ، لا ، أبدا.. لكني أريد أن أستشيرك في أمر طبي.
قلت مجاملا:
ـ أنا في خدمتك.
قالت وهي تتظاهر بالقلق:
ـ في الحقيقة يا دكتور.. أشعر أحيانا بآلام شديدة في الخاصرة اليمنى.. آلام شديدة لا تطاق ، تداهمني فجأة دون سابق إنذار.
ـ لماذا لم تراجعي طبيبا؟
ـ الحقيقة أني مشغولة.. مشغولة جدا.. السيد عبد الغني يملأ وقتي بالأعمال المرهقة.
قلت وأنا أستغرب هذا الإخلاص الزائد والمبالغة المختلقة:
ـ مع ذلك لن تعدمي ساعة في الأسبوع تذهبين فيها إلى الطبيب!..
ـ ما حاجتي إلى الطبيب وأنت هنا؟
نظرت إليها في دهشة:
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أقصد أن تسدي لي خدمة كبيرة لو فحصت لي موضع الألم الآن ، وشخصت لي الداء في هذا الوقت الضائع ، ريثما يتفرغ السيد عبد الغني لك.
الأمور تسير بطريقة ملتوية ، هذا النوع من النسوة المراوغات ليس غريبا عن طبيب مثلي. لقد صادفت من أمثالها الكثيرات ، ولكن ، كيف أتخلص من هذه في هذا الوقت الحرج؟!. واسترقت إلى الساعة المعلقة في صدر الغرفة نظرة خاطفة لأرى إن كان الوقت يساعدني على التخلص منها ، لكنها ضبطت نظرتي تلك ، فالتفتت إلى الساعة في خبث وقالت وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة:
ـ اطمئن يا دكتور ، نصف ساعة في عرف مديري قد تعني ساعة أو أكثر ، لكنه مهما تأخر في مواعيده فإنه يفي بها أخيرا.. هه ماذا قلت؟
ـ في ماذا؟
أدركت بذكائها أني أتجاهل طلبها ، فما لبثت أن صرخت متظاهرة بالألم:
ـ آه.. ها هي نوبة الألم تعاودني.. آي.. يا لها من آلام فظيعة!
تساءلت في سري إن كان هذا تمثيلا متقنا أم حقيقة صادقة ، ضعت بين الشك واليقين ، واستنفر في أعماقي الطبيب الذي أقسم اليمني الطبي المغلظ ، فوضعت فنجان الشاي ، واقتربت منها لأقدم لها بعض العون ، فازدادت صرخاتها حدة وقالت:
ـ أرجوك يا دكتور.. ساعدني.. من حسن حظي أنك هنا.
سألتها أن تصف لي الألم الذي تشعر به ، فقالت:
ـ إنه ألم شديد يبدأ من خاصرتي اليمنى ، ثم ينتشر إلى صدري وظهري ، فيضيق نفسي ، وأشعر بورم كبير ينمو في المنطقة التي يبدأ منها الألم.
تساءلت في حيرة:
ـ ورم!!.
ـ أجل.. ورم كبير.. أخشى أني مصابة بالسرطان!..
ابتسمت رغما عني:
ـ لا تتوهمي كثيرا.. الأمر أبسط مما تتصوري.
همست في ضراعة:
ـ أرجوك يا دكتور.. بإمكانك أن تساعدني.. أليس كذلك؟
شعرت بالحيرة والحرج ، قلت وأنا أنظر حولي:
ـ المشكلة أن هذا المكان عام.. كيف يمكن أن أساعدك؟
هتفت وهي تشير إلى أحد الأبواب:
ـ هنا توجد غرفة للاجتماعات ، وهي فارغة الآن.. تستطيع أن تعالجني فيها.
قلت في تردد:
ـ لكن السيد عبد الغني.. أليس مجتمعا مع ضيوفه فيها؟
قالت في ثقة:
ـ لا ، لا.. في غرفة مكتبه ، أرجوك.. لم أعد أستطيع الاحتمال.
لم تترك لي فرصة للتفكير ، سحبتني من يدي وأدخلتني إلى الغرفة ، ثم ألقت نفسها على إحدى الكنبات ، وهي تتلوى من الألم.. هدأت من روعها ، وطلبت منها أن ترفع طرف سترتها لأتبين موضع الألم ، ففعلت ، وما كدت أنحني لأفحص منطقة الشكوى حتى طوقتني بذراعيها بقوة ، وقبلتني!..
تملصت من بين يديها ، وبصقت عليها في احتقار.
قلت لها ، وأنا في ذروة الغضب:
ـ أنت أقذر امرأة صادفتها في حياتي.
أطلقت ضحكة معربدة ، وقالت وهي تصلح من شأنها:
ـ يبدو أنك ما زلت عذراء!..
هتفت في ثورة:
ـ كيف تجرئين على هذه التصرفات الداعرة في مكان كهذا؟
قالت مستهزئة وهي تلدغ بحرف الراء:
ـ ألم أقل لك يا عزيزي بأنك ما زلت عذراء؟
ثم أطلقت ضحكة مجلجلة ، وخرجت غير عابثة بثورتي وغضبي ، وتركتني فريسة للذهول..
من أين جاءتني هذه العاهرة؟.. وكيف تجرأت علي في هذه اللحظات الحرجة ، وهي تعلم المناسبة التي جئت من أجلها؟!.. وتلفت حولي في قلق خشية أن يكون أحدهم قد رآني ، وفهم موقفي على غير حقيقته ، ماذا لو أن والد أحلام قد رآني معها ، وأنا الذي جئت لأخطب ابنته؟
وخطر لي أن أغادر المكان بلا رجعة ، لكني خشيت أن يفسر انسحابي تفسيرا خاطئا ، وأن يشوه صورتي أمام والد أحلام الذي حدد الموعد للقائي ، لم يكن أمامي خيار ، خرجت إلى غرفة الانتظار ، وجلست ، لم تكن السكرتيرة في الخارج كما توقعت!.. شعرت بشيء من الارتياح لأن منظرها كان سيثير غضبي ويوتر أعصابي ، وقد يدفعني إلى تصرف عنيف لا يناسب المكان الذي أنا فيه ، ولا يخدم الغرض الذي جئت من أجله.
كظمت غيظي ، وأنا أغالب بركانا من الغضب ، وجعل العرق يتحدر من جبهتي بغزارة ، فرحت أجففه بمنديل ورقي.. لا يوجد في الدنيا أكثر حرجا من الموقف الذي وضعتني فيه هذه المرأة الفاسدة!..
بعد دقائق قليلة فتح باب السيد عبد الغني ، فخرجت منه السكرتيرة بصحبة رجل يعلق على كتفه آلة تصوير ، رمقتني السكرتيرة بطرف عينها اليمنى في مكر ، وكأنها تهزأ بي ، فحدجتها بنظرة متقززة ، وأنا أصر على أسناني من شدة الغيظ ، فأشاحت بوجهها عني بغير اكتراث ، والتقطت حقيبتها الجلدية من فوق مكتبها بحركة خاطفة ، وألقتها خلف ظهرها ، وقد علقت طرف حمالتها بسبابتها ومضت وهي تتمايل في مشيتها..


وفاجأني صوت ينبعث من باب المدير:
ـ لا تتأخر عليَّ بالصور..
التفت إلى مصدر الصوت.. رأيت كهلا أنيقا يقف لدى الباب.. رد عليه الرجل الذي يحمل آلة التصوير:
ـ اطمئن.. ستكون جاهزة في غضون ساعتين.
ـ أريد لقطة مقنعة.
هز الرجل رأسه في ثقة ، ومضى خلف السكرتيرة التي كانت قد توقفت قليلا تتابع الحديث.
من هذا الرجل الذي يقف عند باب المدير؟ أيكون هو والد أحلام؟..
ولم يلبث أن أشار إليَّ كالمتسائل:
ـ أنت الـ....
وقفت باحترام ، وقاطعته معرفا بنفسي:
ـ الدكتور صلاح الحكيم..
ـ أهلا وسهلا.. تفضل..
تقدمت خلفه ، فوجدت نفسي أدلف إلى مكتب واسع ، يزدان بأثاثه النفيس الذي لا أذكر أني صادفت مثله من قبل!..
كان المكتب هادئا خاليا من الزوار ، أثبت لي أن السكرتيرة اللعوب كانت تكذب علي ، عندما أخبرتني بأن السيد عبد الغني مشغول مع خبراء أجانب!..
وأيقنت أن الشخص الذي يتقدم أمامي هو والد أحلام ، لماذا كذبت علي السكرتيرة؟ كان بإمكانها أن تخبرني بأن السيد عبد الغني مشغول مع المصور أو الصحفي الذي خرج قبل قليل!.. أيمكن أن يكون الخبراء الأجانب قد خرجوا من باب آخر؟ جلت بنظراتي في أرجاء المكان لأرى إن كان للمكتب باب آخر ، لم أجد ما يدل على ذلك ، لكني لاحظت شيئا مثيرا.. لاحظت أن جدارا من الستائر المخملية الزرقاء السميكة يفصل بين غرفة المدير ، وغرفة الاجتماعات التي جرت فيها الحادثة السخيفة قبل قليل!..
خشيت أن تكون هذه الستائر الزرقاء هي الفاصل الوحيد بين الغرفتين ، فقلقل هذا الاحتمال كياني.. إذا كان والد أحلام قد سمع أو رأى ما حدث ، فأنا في موقف لا أحسد عليه!.. توقف السيد عبد الغني أمام مكتبه الأنيق المصنوع من الخشب النبيل ، ثم دعني للجلوس على كرسي جلدي وثير..
فك السيد عبد الغني زر سترته الأنيقة ، وجلس قبالتي على كرسي مماثل.. ثم ابتسم ابتسامة مرحبة امتصت بعض القلق والتوتر الذي يملأني.. قال السيد عبد الغني بلهجة مرحة:
ـ أهلا.. أهلا بالدكتور العظيم ، أحلام حدثتني عن شخصيتك الفريدة كثيرا.. أخلاقك بالذات كانت مثار إعجابنا جميعا..
ثم استدرك وهو يبسط يده موضحا:
ـ من خلال حديث أحلام طبعا..
أزاحت هذه المقدمة المشجعة كل القلق الذي يجثم على صدري ، فابتسمت ممتنا لهذا الإطراء ، وهمست:
ـ أشكركم على هذه الثقة..
لكن القلق عاودني ، عندما وقعت عيناي على الستائر الزرقاء! هل يعقل أن تكون هذه الستائر قد أخفت ما حدث في الغرفة المجاورة عن انتباه السيد عبد الغني؟ وراودني خاطر مريح ، لعل هذه الستائر تخفي خلفها حائطا من الإسمنت ، أو حاجزا من الزجاج!.. تنهد السيد عبد الغني وقال وهو يضرب فخذه براحته كمن يشكو من أمر:
ـ أحلام فتاة طيبة القلب ، وتتأثر كثيرا بالآخرين.
لم أفهم قصده بالضبط!.. قلت مجاملا:
ـ ربيت يا سيدي ، فأحسنت التربية..
شردت فجأة ، وأنا أردد هذه العبارة.. تذكرت أن هذا الرجل الذي أجامله وألاطفه ، وهو نفسه الرجل الذي كان سببا في سقوط عمارة كاملة فوق رؤوس ساكنيها!.. من يصدق؟.. من يحزر أن وراء هذه البسمة الوادعة والأناقة المسرفة ، ذئب يخفي مخالبه تحت قفاز من الجلد البشري؟!.. وعزاني أني جئت لأنتزع أحلام الطاهرة البريئة من بين براثنه ، لأنسج معها الحياة الفاضلة التي نهفو إليها معا ، ضحك والد أحلام وقد لحظ صمتي وشرودي ، وقال مداعبا:
ـ تشجع يا دكتور.. هل نسيت ما جئت من أجله!
ابتسمت وقلت وأنا أداري ارتباكا:
ـ أنت تعرف لماذا جئت؟.. أحب أن أسمع رأيك الصريح.
ـ أنت تحب الصراحة إذن.
ـ الصراحة أوضح طريق.
ـ لكن الصراحة تكون أحيانا قاسية!..
تفاؤلي ضوى قليلا ، ماذا يعني بهذه الملاحظة؟.. لم أنبس.. أردته أن يقول ما عنده بجلاء.. تناول من فوق مكتبه علبة أنيقة ، وفتحها ، فانطلقت منها ألحان لطيفة.. قال وهو يقدم العلبة لي:
ـ سيكارة؟
ـ لا أدخن.
ـ كما توقعت.
تناول سيكارة ، ثم أعاد العلبة إلى مكانها ، قال وهو يبحث عن الولاعة في جيب سترته:
ـ لا أذكر أني التقيت برجل لا يدخن!
ـ لعلك لم تنتبه لهذا الأمر من قبل!
ـ معك حق.
أشعل السيد عبد الغني السيكارة بلهب قداحته الذهبية ، ثم امتص نفسا عميقا منها وتابع يقول:
ـ أنت تلفت نظري الآن إلى شيء مهم.. ثمة أشياء كثيرة لا ألقي له بالا!..
ـ رجال الإعمال عادة لا يهتمون بالأمور الصغيرة..
ـ لا أكتمك.. عالم الأعمال عالم غريب!.. يلتهم الوقت كما تلتهم النار الهشيم.. لكنه عالم لذيذ.. عالم ممتع.. فيه النجاح والربح والثراء.. فيه الكفاية والقوة والنفوذ.. بالمال تستطيع أن تشتري كل شيء.. حتى السعادة..
قاطعته برفق وقلت مع شيء من الابتسام:
ـ ليس دائما..
حدجني بنظرة جافة لا تريح ، لكنه سرعان ما انتبه لنفسه ، فابتسم وقال:
ـ المهم.. ماذا كنا نقول؟ أنا أرب أحلام.. أحلام نبتت في هذا العالم وحدها ، كما تنمو الوردة في البراري الخضراء. وفرت لها كل شيء ، ثم تركتها تترعرع بحري’ ، حتى أمها ـ مدامتي ـ لم تضغط عليها تركتها تنمو وحدها بحرية ، أنا أؤمن بالحرية ، ومدامتي أيضا ، وظفنا لها عدة خادمات يعنين بها ، وتركناها تعتمد على نفسها ، كان واجب مدامتي أن تراقب نموها ، لأني مشغول ـ كما ترى ـ بأعمالي الواسعة ، لكن المدام ـ الله يسامحها ـ لم تراقب تطور شخصيتها كما يجب ، وهذا أكبر خطأ ارتكبته في حياتها..
ظنتت أنه سيحدثني عن الحنان الذي حرمت منه ابنته المدللة ، والصقيع الذي عاشته في أعماقها ، بعيدا عن دفء الأبوة والأمومة ، لكنه فاجأني بتحليل غريب لم يخطر لي على بال.. قال بلهجة المحلل الخطير:
ـ هذا الخطأ قتل الطموح في نفس أحلام ، جعلها تتأثر بخادماتها البسيطات.. أصبحت تهوى حياة الفقراء والبسطاء.. لم تتذوق السعادة التي نشأت في أحضانها ، ولم تحفل بها.. صارت تنظر إلى العالم بمنظار أسود.. تبحث عن سعادة رومانسية كاذبة كالتي تقرأ عنها في الروايات ، وتسمع عنها في الأفلام ، يؤسفني أن ابنتي فقدت قدرتها على الطموح ، إنها دائما مشدودة إلى تحت ، لا أدري كيف أنقذها من هذه الأفكار!..
آه.. لقد بدأت التلميحات المؤذية!.. إلى أين تريد أن تصل أيها الرجل الأنيق؟.. شعرت أن من واجبي أن أدفع عن أحلام ، وأصوب نظرته إليها ، قلت متضاحكا:
ـ أختلف معك في أن الدكتورة فتاة بلا طموح ، فما أعجبني فيها حقا أنها فتاة طموحة تبحث عن صورة تتكامل فيها لذة المادة مع سعادة الروح ونظافة الوجدان..
وأردفت:
ـ يبدو لي أنك تبالغ قليلا في الحكم على أحلام؟
سدد إلي نظرة غامضة ثم قال:
ـ أنت تحب أحلام.. أليس كذلك؟
أحرجني هذا السؤال ، في مجتمعنا ـ فيما أعلم ـ ليس من المألوف أن يستعمل الخاطب مصطلح الحب في حضرة ولي أمر المخطوبة! قلت وأنا أحاول اختبار الكلمات المناسبة:
ـ لقد وجدت في أحلام فتاة مؤدبة ، ذكية ، حساسة ،طيبة ، يحلم كل شاب بأن يقترن بمثلها ، فضلا عن أنها طبيبة مثلي ، ويمكن لكل واحد منا أن يتفهم ظروف الآخر بسهولة ، باختصار شديد أنا أرتاح إليها جدا ، وأطمح أن تكون لي شريكة في هذه الحياة.
نهض وقال بنبرة حاسمة:
ـ يعني تحبها.
صمت إعلانا للرضى.. هز رأسه كاليائس ، ثم دار حول مكتبه بخطوات متثاقلة ، وجلس خلفه.. وقال وهو ينقر حافة مكتبه برأس سبابته:
ـ من يحب فتاة يا دكتور يجب أن يسعدها.
ـ ما في ذلك من شك!.
ـ هل تملك أسباب السعادة التي تحتاجها فتاة كأحلام؟
ـ أملك أسباب السعادة التي تحتاجها أية فتاة.
ـ أحلام ليست أية فتاة.
أدركت ما يرمي إليه ، قلت:
ـ لا أنكر أن لأحلام وضعا خاصا لا تتمتع به أية فتاة ، لكننا متفقان ـ أنا وهي ـ على الأساسيات التي تكفل لنا السعادة التي نرجوها.
سألني بغتة:
ـ هل تستطيع أن تشتري لها سيارة فخمة ، كالتي تركبها الآن؟
فاجأني السؤال.. أجبت وأنال محرج:
ـ في الحقيقة أملك سيارة متواضعة نستطيع أن نستخدمها ريثما تتحسن أوضاعنا.
قذفني بسؤال آخر:
ـ هل تستطيع أن تشتري لها "فيلا" كالتي تقيم فيها الآن؟
لذت بالسكوت.. هذه لا أستطيعها.. لا الآن ولا غدا.. لكنه لم يرحم سكوتي فرماني بسؤال آخر:
ـ هل تستطيع أن تقيم لها حفل زفاف يليق بها وبأقربائها ومعارف أبيها ، معارفي أنا ، أنا لا أستطيع أن أزف ابنتي الوحيدة إلى بيت الزوجية في عرس صامت كالمأتم.. لابد أن أقيم لها الأفراح وادعوا الوزراء والكبراء ورجال الأعمال.
بدأت أشعر بالهوة السحيقة التي تفصل بيني وبين أحلام.. هذا ما حذرني منه والدي منذ البداية.. وهذا ما كان يجعلني أتردد في التفاعل مع مبادرات أحلام.. ها هو أبوها يصفعني بهذه الحقائق الجارحة ليجعلني أستسلم ، وأنسحب من حياة ابنته قبل أن يطردني منها ، صمت ثانية ، لكنه لم يرحم صمتي.. قال بلهجة الواعظ المتعالي:
ـ الدكتورة أحلام يا بني ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب ، فإذا ما سحبت هذه الملعقة من فمها تذبل.. تموت.. هل تفهمني يا دكتور؟!..
أنا الآن متهم بالشروع بالقتل.. مجرد إقدامي على خطبة أحلام يعني تهديدا لها بالقتل ، وأداة الجريمة هي ملعقة الذهب التي يعني سحبها من فم أحلام تفجير سعادتها ، كما تنفجر القنبلة عند سحب صمام الأمان الذي يلجم طاقتها!.. ملعقة الذهب في نظره هي الروح التي تضخ الحياة في عروق أحلام!.. لمت نفسي بقسوة لأني أقدمت على هذه الحماقة ، وطرقت أعتابا لا تنبغي لشاب متواضع مثلي ، كدت أرفع الراية البيضاء ، وأعتذر للسيد عبد الغني عن محاولتي لخطبة كريمته المرفهة الثرية ، لكن طيف أحلام الوادعة الرقيقة ، حضر فجأة ، وشحنني بدفعة جديدة من العزيمة والإصرار ، ووجدتني أقول لوالدها في ثقة:
ـ عندما اخترت أحلام ، واختارتني.. لم تكن هذه المعاني غائبة عن ذهننا ، لقد شرحت لها ظروفي بصدق ، وهي راضية بما ستقدم عليه.
استند السيد عبد الغني بكلتي يديه على مكتبه ، واسترخى برأسه فوق كفيه المتشابكين بقوة ، ثم تنهد وقال:
ـ نعم.. هذا صحيح.. أحلام راضية بما ستقد عليه ، لكنها في أعماقها ساذجة.. طفلة.. لا تقدر عواقب الأمور.. لا تقدر مسؤولية الزواج ، ومتطلبات المستوى المادي والاجتماعي الذي نشأت فيه..
بدأت أشعر بالإهانه. كل كلمة يقولها هذا الرجل المغرور ترفضني وتجرحني وتتهمني بالوضاعة المادية!.. أي عالم هذا الذي تعيشون فيه؟
وأي منطق هذا الذي تتحدثون به أيها المترفون المغرورون بما أوتيتم من نعمة زائلة سوف تغادرونها عاجلا أم آجلا ، لتعودوا إلى بطن الأرض التي جئتم منها حفاة عراة تتضورون جوعا وعطشا ، وتلهثون وراء قطرة لبن تمنحكم الحياة؟
أصبح موقفه أمامي واضحا ، ولم يعد من اللائق بكرامتي أن أبقى جالسا مع إنسان متغطرس ينظر إلي من عل وكأني قزم ضئيل ، وهممت بالنهوض ، لكنه قال وهو يحملق كالذاهل:
ـ لأول مرة في حياتي تتحدى لي أحلام رأيا ، وتفرض علي رغبتها.. لأول مرة تصرخ أحلام في وجهي ، وتقول بإصرار : "إذا لم أتزوج الدكتور صلاح ، فلن أتزوج رجلا غيره"..
ثم نهض وأردف ، وهو يجمع نظراته الذاهلة ليركزها نحوي:
ـ صورتك لي ملاكا يمشي على الأرض!.. فارسا نبيلا يذرع العالم على حصانه الأبيض ، ويمد يد المساعدة للمحرومين والمظلومين والمستضعفين!.. مصلحا اجتماعيا جاء يحمل الخلاص لهذا العالم المنهار!.. لقد أثارت فضولي للتعرف عليك!..
ثم ابتسم ابتسامة محيرة ، وقال كالمازح:
ـ ماذا فعلت بلب الفتاة يا رجل؟ يبدو أنك شاب على درجة خارقة من الذكاء!..
خفق قلبي بحب أحلام ، وأدركت عمق إخلاصها لي ، وطوقتني ثقتها بي بالحياء ، فتراجعت عن قراري بالانسحاب ، ووجدت في ذلك خيانة للإنسانة التي قاومت رغبة أهلها من أجلي ، وقررت أن أمضي مع والدها إلى نهاية الشوط ، لأرى ما عنده ، محتملا هذه الإشارات المؤذية التي تلوح في كلامه.
قال السيد عبد الغني:
ـ أنا رجل عملي.. أحب الحلول الواقعية ، ولا أحب التشنج والعناد في الصفقات الخاسرة.
حسابات الربح والخسارة ، ولغة الصفقات تطغى على حديثة ، حتى وهو يعالج زواج ابنته!!.. أكمل أيها الرجل.. أكمل وقل ما تريد..
ـ أنت تريد أحلام وهي تريدك ، ومن حق كل منكما أن يختار.
بداية جميلة لا غبار عليها..
تابع يقول:
ـ لكن ما تريده أنت ، وما تريده هي ، لا يلغي دوري في هذا الزواج كأب حريص على مستقبل ابنته.
سارعت بالتوضيح:
ـ معاذ الله أن أفكر بإلغاء دورك ، أنت والد أحلام ولرأيك عندي كل احترام..
ـ عظيم ، أنا يا دكتور صلاح فكرت في الأمر جيدا منذ أن فاتحتني أحلام بالموضوع ، وقد رأيت أن الحل لا يكمن في الوقوف في وجه هذا الزواج.
لاح لي شعاع جديد من الأمل ، فرقت على شفتي ابتسامة صغيرة ، وتلهفت لسماع بقية كلامه.. قال:
ـ الحل يكمن في تحقيق عوامل الحياة لهذا الزواج حتى يعيش ويقاوم الظروف الصعبة.
ثم سألني كمن فطن لأمر:
ـ كيف أنت والتجارة؟
ـ التجارة؟!! لم أجربها يوما ، ولم أفكر بها ، أنا طبيب وأحلم بالاختصاص الطبي وتطوير خبراتي الطبية ، ولدي طموحات في المستقبل لإقامة مستوصف متواضع.
قال في استهانة ساخرة:
ـ الطب لم يعد تجارة رابحة.
ـ الطب ليس تجارة ، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام.
وضح رأيه قائلا:
ـ أقصد أن الطب بات مهنة كاسدة ، كثر الأطباء وزادت أعدادهم ، ولم تعد مهنة الطب تلك المهنة التي تدر المال الوفير ، وتؤمن لصاحبها المستوى المادي المتفوق ، لقد انتهى عصر الشهادات والاختصاصات العلمية ، وبدأ عصر رؤوس الأموال .. بمالك اليوم تستطيع أن توظف عشرات المثقفين والمهندسين والأطباء ، إذا شئت!..
البسمة الفرحة التي كادت تتسع توقفت عن النمو.. ما زال هذا الرجل يسئ إلي بكلماته ، ترى؟.. هل يتقصد ذلك ، أم أنه يخطئ اختيار الكلمات؟!..
وأردف قائلا:
ـ فيما مضى حزنت كثيرا لأني لم أستطع أن أنال شهادة أو أدخل جامعة ، لكني أدركت الآن أن ذلك كان نعمة وتوفيقا ، فلو أني انهمكت في الدارسة والتحصيل ، لما استطعت أن أقيم إمبراطورية الأعمال التي أتربع على عرشها الآن.
قلت وأنا أرثي لقناعاته:
ـ المال ليس كل شيء في الحياة.
قاطعني بحدة ، وقال وهو يلوح بيد قد تشنجت أصابعها حول قبضة من الفراغ:
ـ خطأ.. خطأ.. المال هو كل شيء.. بلا مال لا تستطيع أن تكون سعي.. لا تستطيع أن تكون قويا.. لا تستطيع أن تعيش..
ثم بلهجة أقل حدة وعنفا:
ـ لا تستطيع أن تتزوج..
أزعجتني هذه اللهجة الصاخبة ، فقلت:
ـ أنا لا أغفل دور المال في حياتنا ، لكني لا أستطيع أن أحص السعادة فيه..
أشاح بيده كمن يفتح صفحة جديدة ، وقال:
ـ ما علينا.. خلنا في المهم.
ـ تفضل.
ـ أنت تريد أن تتزوج أحلام..
ـ هذا يشرفني..
ـ وزواجك منها حتى يعيش يجب أن يكون مشفوعا بدخل عال لا تحققه لك مهنة الطب.
ـ لست مضطرا لهذا الدخل العالي!
ـ أنا أشترطه للموافقة على زواجك من ابنتي.
شعرت أنه يريد أن يفرض علي إرادته ، فكظمت داخلي غضبة تريد أن تنفلت لتعبر عن رفضي لهذا الأسلوب الذي يعاملني به ، قلت له متظاهرا بالهدوء:
ـ أستطيع أن أقول بأن دخلي متوسط ، وأطمح لأن أزيده ، لكن نموه يحتاج إلى عنصري الزمن ، والدأب ، هذه ظروفي ، ولا أستطيع أن أخلق غيرها.
قال واثقا:
ـ بل تستطيع.
ـ كيف؟
ـ بصفقة واحدة.
ـ صفقة!.
ـ وتربح مئة ألف دولار.
ـ مئة ألف دولار!!..
ـ تربحها بسهولة.
نظرت إليه في شك ، كان العرض مفاجئا ومثيرا ، قلت محذرا:
ـ أرجوك أن تلاحظ يا سيدي بأني لا أحب المكاسب السهلة التي تقدم إلي كمساعدة.
ـ من قال بأني أقدم لك مساعدة؟!.. أنا أعرض عليك صفقة نتبادل فيها المصالح ، تقدم لي خدمة ، وتقبض ثمنها مالا.. مئة ألف دولار تكسبها بجهدك وخبرتك ، ثم تنطلق إلى دنياك الجديدة ، وأنت تملك أسباب السعادة والرفاه.. ومن يدري؟ فقد توظف هذا المبلغ في مشروع تجاري ، فتسكب أضعاف مضاعفة وتصبح من أصحاب الملايين.. اسألني أنا.. أنا بدأت من لا شيء.. بدأت ماسح أحذية ، وانتهيت مليارديرا.. برأسمال صغير كونت إمبراطورية تجارية لا تغيب عنها الشمس ، ألم تسمع بإمبراطورية عبد الغني الذهبي؟
ابتسمت مجاملا ، وقلت:
ـ سمعت فقط بالإمبراطور.
دغدغت كلماتي غروره ، فضحك ضحكة ممزوجة بالفخر ، ثم قال وهو يشير إلى نفسه في زهو بالغ:
ـ وها هو الإمبراطور أمامك ، يفتح لك أبواب السعادة على مصراعيها ، وافق حتى تفوز بالأميرة.
ـ أريد أن أعرف دوري في الصفقة!
ـ لو كنت مكانك لما سألت عن دوري ، بل وافقت على الدور مهما كن ، لأفوز بالإنسانة التي أحبها.
ثم أردف وهو يسترخي على كرسيه:
ـ يبدو أنك زاهد بالربح الذي ستكسبه ، أم أنك زاهد بالأميرة؟
شعرت بأني أجلس أما داهية صعب.. مراوغ من طراز نادر.. لماذا يريد أن يثير لعابي طمعا بدولاراته؟.. لماذا يربط زواجي من أحلام بهذه الصفقة؟.. لا أنكر أن العرض كان مغريا ، وفيه قفزة مادية تساعدني على تحقيق أحلامي ، ولكن.. مئة ألف دولار؟!.. لقاء ماذا؟!!!
وكررت في إلحاح:
ـ مازالت مصرا على معرفة دوري!..
ـ هذا من حقك.. حسنا.. منذ سنوات..
ثم استدرك فجأة ، وسألني:
ـ ماذا تشرب؟
ـ أي شيء.
ـ قهوة؟
ـ فليكن..
رفع والد أحلام سماعة الهاتف وطلب فنجانين قهوة ، ثم أعاد السماعة بهدوء وهو شارد ، وكأنه يحاول أن يرتب أفكاره ، قال بعد صمت قصير:
ـ منذ فترة شاع استعمال الأغذية المعلبة للأطفال.. فقمت باستيراد كميات هائلة من هذه الأغذية ، بناء عل نصيحة أحد المستشارين في الشركة ، وفعلا.. طرحنا الأغذية المعلبة في السوق ، فلاقت رواجا وإقبالا من الجمهور ، لكن التجار سرعان ما انتبهوا إلى جدوى هذا النوع من التجارة ، فتهافتوا عليه ، وأغرقوا السوق بأغذية الأطفال المعلبة ، واستورد بعضهم أنواعا رخيصة من هذه الأغذية ، فأقبل الناس عليها ، فاضطررت لتخفيض أسعار الأصناف التي استوردتها ، لكن المنافسة كانت قوية ، فلم أستطع تسويق كل الكميات التي أملكها ، وكسد جزء كبير منها في المستودعات.. والآن.. أملك أكثر من نصف مليون علبة تحتاج إلى تسويق قبل نهاية هذا الشهر!..
لم أفهم معنى التحديد في التاريخ!.. تساءلت مستفسرا:
ـ لماذا قبل نهاية هذا الشهر؟
أشعل والد أحلام سيكارة جديدة ، وقال:
ـ أنت تعرف أن الشركات الصانعة للمواد العذائية المعلبة ، تضع زمنا محددا لاستهلاك هذه الأغذية ، تنتهي بانتهاء صلاحية استعمالها..
أضفت موضحا:
ـ هذا صحيح ، فالأغذية المعلبة يمكن أن تتعرض بعد انتهاء هذا الزمن للفساد ، لأن المواد المضافة إليها لتحفظها تفقد فعاليتها ، وقد يطرأ على هذه المواد الحافظة تحول كيميائي ، فتنقلب إلى من مواد حافظة للغذاء إلى مواد سامة..
أحسست أنه لم يرتح لتوضيحي!.. قلت في نفسي لعي ألقيت كلماتي بلهجة المتعالم ، أو لعله لا يحب أن يقاطعه أحد في الكلام!.. أفسحت له الفرصة ليتابع حديثة.. رمقني هنية ، ثم قال بنبرة حذرة:
ـ لكن هناك شيء مهم لا أظنك تجهله!
ـ ما هو؟
ـ أن الشركات الصانعة تحتاط للأمر ، فتضع تاريخا مبكرا لانتهاء زمن الاستعمال.
ـ هذا من باب الوقاية..
ابتسم فيما يشبه الرضا ، ثم قال بلهجة علت فيها نبرة الحماس:
ـ هذا يعني أن استعمال الأغذية المعلبة بعد انتهاء الاستعمال بأشهر قليلة لا يشكل خطورة على حياة المستهلك..
أزعجني هذا الاستنتاج المتسرع ، ودفعني للاعتراض.. قلت جازما:
ـ بل يشكل خطورة كبيرة ، وينطوي على مجازفة لا تحمد عقباها.
قال في محاولة لإقناعي:
ـ لكنا اتفقنا أن تاريخ انتهاء الاستعمال المسجل على علب الأغذية تاريخ وقائي للاحتياط فقط!..
ـ هذا لا يبرر استعمالها بعد هذا التاريخ.
ـ هذا الكلام يقال كقاعدة عامة ، لكن.. لكل قاعدة استثناء.
أثارتني هذه السفسطة التي يمعن فيها والد أحلام ، وحرت في النهاية التي يريد أن يصل إليها!.. قلت في إصرار:
ـ القواعد التي تتعلق بصحة الناس وسلامتهم لا تخضع للاستثناءات.
امتعض وقال:
ـ هل تعرف كم سأخسر إذا انتهت مدة استهلاك أغذية الأطفال المعلبة المكدسة عندي في المستودعات؟..
ثم أردف يجيب عن سؤاله بنفسه:
ـ سأخسر مليون دولار..
ـ خسارة فادحة بلا شك!..
ـ بل كارثة.
ـ وكيف ستتصرف؟
ـ ليس أمامي خيار.. يجب أن أسوقها بسعر التكلفة.
ـ وتستطيع أن تسوقها قبل نهاية الشهر؟!
ابتسم في دهاء وقال بنبرة مكر:
ـ إذا ساعدتني أستطيع!.
ـ أنا؟
ـ ولك عشرة بالمئة من المليون..
نظرت إليه في ريبة!.. ماذا يريد مني هذا الرجل؟.. وماذا يمكن أن أقدم له لإنقاذ تجارة كاسدة بقيمة مليون دولار؟..
قلت مستوضحا:
ـ أريد أن أعرف دوري بالضبط!..
ـ هل نتكلم بصراحة؟
ـ إذا سمحت..
ودخل الناذل بالقهوة ، فقدمها لنا ثم انصرف ، قال والد أحلام بعد أن تأكد من أن النادل قد أغلق خلفه الباب:
ـ لا أخفيك يا دكتور بأني عرضت أغذية الأطفال على تجار كثيرين ، وبسعر الكلفة ، لكنهم اعتذروا ، أرادوني أن أبيعهم العلبة بسعر زهيد ، لكني رفضت.. أنا لا أتاجر لأخسر.. قد أبيع بسعر الكلفة عندما أضطر ، لكني أرفض أن أخسر.. ولم أيأس.. تابعت محاولاتي لتسويق الكمية الكاسدة عندي.. وحدث أن تعرفت على تاجر كبير في اليف.. أقنعته بالصفقة ، فوافق ، لكنه عندما علم بأن تاريخ الاستهلاك سينتهي مع نهاية الشهر أحجم.. وضحت له أن هذا التاريخ وقائي للاحتياط ، وأنه لا خطورة من استهلاك الأغذية بعده بأشهر قليلة ، لكنه أصر أن يسمع هذا الكلام من فم طبيب.. أعتقد أنك الآن فهمت دورك جيدا في الصفقة!..
شعرت بالإهانه تسربلني من رأسي حتى قدمي!.. وقفت غاضبا ، وهدرت في وجهه:
ـ هذه محاولة دنيئة لشرائي بحفنة من الدولارات!..
واجه ثورتي بابتسامة ، لم يكن يستبعد ردة فعلي ، فاستعد له بشيء من الحلم والمكر ، وقال محاولا تهدئتي:
ـ مهلا.. مهلا.. لا داعي لكل هذا الغضب.. ما هكذا يتكلم الشبان عندما يخطبون بنات الناس.. اجلس وتكلم بروية ، فنحن مازلنا في صدد الخطبة!..
أثارني هدوؤه إلى درجة الانفجار.. قلت في حنق:
ـ أنت تستعمل موضوع الخطبة من أجل مآرب مريضة.
ـ دعك من هذا التمثيل ، والتفت لما ينفعك..
ـ أنا لا أمثل.. ولا أسمح باستخدام هذه الأساليب معي..
ـ سأرفع مكسبك إلى مئتي ألف دولار.
ـ إمبراطوريتك كلها لا تغريني.
تابع بنفس الهدوء:
ـ ثمة أطباء يرضون القيام بهذا الدور من أجل عشر المبلغ الذي ستربحه من هذه الصفقة.
ـ لا يوجد إنسان نظيف يرضى أن يخون ضميره ، ويروج لبضاعة فاسدة يمكن أن تؤذي أطفالا أبرياء.
ـ إنها بضاعة سليمة ، كل ما في الأمر أننا سنستفيد من زمن الوقاية.
ـ هل تعرف لماذا استعملت الشركات الصانعة زمن الوقاية هذا؟
كتف يديه، ووقف يسمعني في غيظ.. تابعت غير عابئ به:
ـ زمن الوقاية هذا وضع بالحسبان خوفا من احتمال فساد واحدة بالمليون من علب الغذاء.. يعني احتمال إيذاء كفل من مليون طفل..
ـ وإيذائي؟.. ألا يستحق أن يوضع بالحسبان؟
ـ المال يمكن تعويضه ، أما الحياة فلا تعوض.. لا أدري كيف تجرؤ على المقامرة بأرواح الأطفال!!..
قال في محاولة أخيرة للضغط علي:
ـ كنت أظنك تحب أحلام.
ـ ومازلت..
ـ لو كنت تحبها لفعلت ما يساعدك على الاقتران بها.
ـ من يحب لا يشتري سعادته بشقاء الناس.
قال بحدة وقد بدأ يخرج عن طوره:
ـ أنت إنسان ضيق الأفق لا تعرف هذه الدنيا؟
ـ إذا كانت هذه الدنيا ، فأنا أرفضها.. سأدعها لك ولأمثالك لأنها دنيا مسمومة.
هتفت في ثورة وحنق:
ـ من تظن نفسك؟.. آه.. ملاكا؟.. نبيا؟.. لقد انتهى عصر الأنبياء.
ثم أردف يقول بنفس اللهجة المتغطرسة:
ـ كان بإمكاني أن أرفض لقاءك منذ البداية ، لكني أحببت أن أساعدك ، وها أنت ترفض مساعدتي ، وتستعلي عليها ، كان يجب أن تعرف من أنت ، قبل أن ترفع عينيك إلى فتاة لا تستحق ظفرها.
قلت وأنا أرمقه بنظرة تنضح بالاحتقار:
ـ بإمكاني أن أسمعك كلاما غليظا لم تسمع به من قبل ، لكني أترفع أن أنزل إلى المستوى الذي عاملتني به.
قال متوعدا:
ـ أنت لا تعرف من تتحدى!
ـ أنت مغرور بنقودك.
ـ بإمكاني أن أؤذيك.
ـ هل أفهم هذا على أنه تهديد؟
ـ سمه ما شئت.. وسترى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة