ابحث في الويب




رواية


البحث عن امرأة مفقودة 


الفصل 31-33


د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء




۞ الفصل الحادي و الثلاثون ۞

سجلوا في أوراقكم.. نورا ماتت شهيدة.
نعم.. إنها الآن هناك.. في الجنة..
ترفرف بأجنحة من الطهر، وترفل في ثياب من النور..
إنها الآن هناك.. في السماء..
تروي لخالقها قصة مآساتها الدامية الأليمة ، وتشكر إليه الذين ظلموها وافترسوها..
تريدون أن تعرفوا من هي نورا!..
سأقول لكم.. إنها شاهدة على جهل القرية وظلم المدينة..
شاهدة على القسوة التي استشرت فينا..
شاهدة على هذا الفساد الذي حول مجتمعنا إلى غابة ..
غابة من الوحوش التي لا ترأف أو ترحم..
وتهدج صوت المديرة ، فانفجرت باكية ، وغرق صوتها في خضم الانفعال..
رجاها المحقق أن تهدأ ، وأن تروي له كل ما تعرفه عن نورا ، فتماسكت وبدأت تدلي بشهادتها ،
قالت من بين الدموع :
ـ بدأت علاقتي بنورا منذ أشهر.. عندما حضرت إلي وطلبت مني أن أسمح لها بالعمل في الملجأ ،
اعتذرتُ.. لم يكن من الممكن أن أوافق ، فميزانية الدار محدودة ،
ونحن لا نكاد نوازن بين ما يأتينا من منح وتبرعات ، وبين ما نقدمه للأطفال الأيتام من خدمات ،
لم يقنعها اعتذاري ، كانت المسكينة حزينة ، وكانت نظراتها كسيرة ،
وملامحها تدعو للرثاء ،قالت بأنها تحب ممارسة الأعمال القريبة من الأطفال ورجتني أن أحقق لها رغبتها ،
لم أستطع ، فكررت اعتذاري وشرحت لها ظروف الدار ، لكنها ألحت في الطلب ،
ورجتني متوسلة أن أساعدها ، رق لها قلبي..
قلت في نفسي لعلها في ضائقة مادية تدفعها للبحث عن عمل ، ووجدت من واجبي أن أساعدها..
سألتها عن مؤهلاتها ، فأخبرتني بأنها طالبة لغة إنكليزية ، لكنها تركت الجامعة قبل التخرج لأسباب لم تفصح عنها!..
تذكرت صديقة قديمة تملك روضة أطفال ، فعرضت على نورا أن تذهب لتعمل لديها مدرسة ،
ووعدتها بأني سأزورها بكتاب توصية يمهد لها الأمور.. قدرت أنها ستفرح لهذه المبادرة ،
لكنها وجمت ، وبدت الخيبة في عينيها ، كانت مصرة على العمل في الدار!..
هنا ساورتني الشكوك!! ما معنى هذا الإصرار؟
من المهم أن أذكر هنا أن نورا جاءتني بعد يومين فقط من تحويل الطفلة اللقيطة إلينا ،
وكانت جريدة الأيام قد اهتمت بقصة الطفلة اللقيطة ، وتابعت أخبارها ،
فذكرت أنه قد تم نقل الطفلة من المستشفى ابن النفيس إلى دار الحنان للأيتام..
في الحقيقة.. لم تكن نورا أول أم تلح عليها أمومتها ،
فتأتي إلى الدار لتحوم حول طفلها أو طفلتها التي تخلت عنها لسبب أو لآخر ،
وأردت أن أختبر نورا..
قلت لها : إذا كنت مصرة على تقديم المساعدة لأطفال الملجأ ،
فليس أمامك سوى فرصة العمل التطوعي في الدار ، هل تعملين متطوعة بلا أجر؟
انفرجت أساريرها فجأة ، ودمعت عيناها من شدة الفرح وأبدت حماسا بالغا للفكرة!!
ازدادت شكوكي لكني أخفيتها!..
أظهرت إعجابي بحماسها وأريحيتها ، واهتمامها بالأطفال اليتامى ،
وطلبت من المسؤولة عن المشرفات أن ترتب معها الزمان والمكان الذي ستتبرع فيه بجهودها ،
وأوصيت المسؤولة بأن تترك لنورا حرية الاختيار..
ومر أسبوع.. كنت أراقب خلاله تصرفات نورا وأحللها بهدوء وروية..
لاحظت أنها اختارت العمل في جناح الأطفال الرضع ،
وأنها كانت تقضي في الدار أوقاتا طويلة تزيد أحيانا عن دوام المشرفات المنتظمات لدينا ،
ولاحظت أيضا أنها كانت تسبغ عطفا واهتماما خاصا على الطفلة بارعة ،
على درجة جعلت طبيب الملجأ يشكو من استدعاء نورا له ثلاث مرات خلال الأسبوع
ليتفقد الطفلة بدون سبب واضح!
ومر أسبوع آخر.. علمتُ خلاله أن نورا قد استدانت من إحدى الموظفات مبلغا من المال!..
إذا كانت بحاجة إلى المال ، فلماذا تتطوع بالخدمة في الدار ، وترفض فرصة العمل المأجور في مكان آخر؟..
وأصبحت الصورة لدي واضحة جلية..
استدعيت نورا ذات صباح ، وأثنيت على بذلها وتفانيها ، قلت لها بعد أن شاع بيننا جو من الألفة والمودة :
"
اعلمي يا ابنتي بأن الصداقة التي توطدت بيننا صارت تسمح لي بالإطلاع على سرك الذي تخفينه عني ،
فأرجو أن تبوحي لي بقصتك الحقيقية فقد أستطيع مساعدتك"..
بوغتت بكلامي ، ارتبكت وتلعثمت ، تجاهلت وأنكرت ، ثم انخرطت في بكاء مرير..
وأجج الحديث مشاعر المديرة ، فبكت وهي تتذكر بكاء نورا بين يديها ، فتركها المحقق تفرغ انفعالاتها ،
وتشاغل بمراجعة آخر ما دونه كاتبه من أقوال ،
قال المحقق لكاتبه:
ـ إياك أن تغفل عن حرف ، هذه القضية على ما يبدو معقدة ومتشعبة الخيوط!
أومأ الكاتب برأسه مستجيبا لملاحظة سيده ، وانكب على أوراقه استعدادا لالتقاط كل كلمة تصدر عن المديرة..
وتابعت المديرة سرد أقوالها ، فوجدتُ تطابقا كبيرا بين ما روته لي نورا عن حياتها ،
وبين ما روته مديرة الملجأ ، والتفت المحقق إلي في نظرة عابرة ـ كمن يعترف بصدق أقوالي ،
فلم أحفل بنظرته ، لأن اهتمامي كان مركزا على رواية المديرة ،
باحثا عن الحلقة المفقودة التي ضاعت نورا قبل أن أعرفها..
ووصلت المديرة إلى الفصل الضائع من الرواية ،
فقالت :
ـ ... ثم عملت نورا في شركة عبد الغني الذهبي ، وهناك بدأت مأساتها الحقيقية..
لم أستطع صبرا ، أفلتت مني غضبة كظيمة ، وهتفت بنبرة المتألم المظلوم الذي وجد دليلا على براءته :
ـ ألم أقل لكم.. إنه عبد الغني الذهبي.. رمز المصائب والبلايا!..
إنه يقف خلف كل جريمة ببصماته الملوثة..
رائحته الكريهة تفوح منه على الرغم من كل العطور التي يغتسل بها ليزور حقيقته..
حدجني المحقق بطرف عينيه احتجاجا على تسرعي في الكلام ، بينما قالت المديرة في محاولة للتوضيح :
ـ عفوا.. يبدو أن هناك التباسا في الأمر..
صحيح أن صاحب الشركة التي عملت فيها نورا هو السيد عبد الغني الذهبي ،
لكن الذي اغتصب نورا وكان وراء مأساتها هو الدكتور شريف مدير الشركة!
ـ الدكتور شريف!!..
أفلت مني هذا التساؤل رغما عني..
هذه أول مرة أعرف فيها أن لشركة عبد الغني الذهبي مديرا يدعى الدكتور شريف!
والتفت إلي المحقق غاضبا ، وقال بنبرة وشت بنفاد الصبر :
ـ دكتور صلاح.. لقد اصطحبتك معي على مسؤوليتي الشخصية ، إيمانا مني ببراءتك ،
واحتراما لمشاعرك التي جرحناها باعتقالك هذا الصباح ، لكني لا أسمح لك أبد أن تتدخل في التحقيق ، أو تفسد مجراه..
انسكبت كلمات المحقق علي كشلال من الماء البارد ،
وبعثت في نفسي ارتياحا عميقا رغم اللهجة الجافة التي حملتها ،
المحقق مقتنع ببراءتي شخصيا على الأقل ، ونظرت إليه بامتنان وإذعان.. وصمت..
لم يكن أمامي سوى الصمت إن أنا أردت أن أعرف بقية هذه القصة التي حشرتني بين خيوطها المتشابكة..
وعاد المحقق باهتمامه إلى المديرة..
ـ قُلتِ إن الذي اغتصبها يدعى الدكتور شريف؟..
ـ نعم.. الدكتور شريف الطيب ، المدير التنفيذي لشركة الذهبي..
ـ أجل..
ـ وحملت منه؟
ـ نعم.. وقد طالبته بأن يتزوجها ليجنبها الفضيحة ،
لكنه رفض ، واختلق حولها الأقاويل , ثم فصلها من العمل..
ـ وعبد الغني الذهبي.. هل علم بالأمر؟
ـ علم عندما شكت له نورا الدكتور شريف..
ـ ماذا كانت ردة فعله؟.
ـ لم يصدقها.. طردها من مكتبه ، وهددها بأنه سيبحث عن أهلها ،
ويحدثهم عن سوء أخلاقها ، إن هي كررت شكواها أو ذكرت شركته وموظفيها بسوء..
ـ لماذا يظن عبد الغني الذهبي أن نورا فتاة سيئة الأخلاق؟..
ـ لعل الدكتور شريف وسوس له بهذه الفكرة..
ـ لماذا لم تتقدم نورا بشكواها إلى العدالة؟..
ـ خافت من الفضيحة..
ـ الحمل أمر لا يمكن إخفاؤه ، والفضيحة كانت وشيكة على كل حال..
ـ لقد احتاطت للأمر..
ـ كيف؟..
ـ استطاعت نورا أن تجد غرفة عند سيدة عجوز تقيم في أحد الأحياء الفقيرة..
كانت العجوز طيبة وحكيمة ، فعطفت عليها ، وتفهمت ظروفها..
وهكذا عاشت نورا في كنفها آمنة مستورة ، حتى وضعت وأنجبت طفلتها..
تفكرالمحقق هنية ، ثم قال :
ـ إذا كانت نورا قد وجدت المكان الآمن الذي تربي فيه طفلتها ، فلماذا تخلت عنها؟
أجابت المديرة :
ـ بعد أن وضعت نورا طفلتها ببضعة أشهر اختار الله العجوز الطيبة إلى جواره ،
وجاء الورثة يطالبون بمنزل فقيدتهم ، فاضطرت نورا للرحيل ،
وخرجت من مأمنها هائمة تائهة لا تعرف إنسانا تلوذ به ، أو مكانا تأوي إليه ،
واستبد بها اليأس ، فقررت أن تتخلص من الحياة ، وكان عليها قبل ذلك أن تجد لطفلتها من يرعاها ،
فهداها فكرها إلى وضع الطفلة أمام أحد المساجد ، ليلتقطها أحد الصالحين ، فيتولى أمرها ،
واختارت مسجدا تعرفه ، فتسللت إليه أثناء صلاة الفجر ، ووضعت طفلتها في حديقته ، ثم توارت بعيدا ، وجعلت تنتظر..
وخرج المصلون من مسجدهم ، فترامى إلى سمعهم بكاء طفل ، فهرعوا إلى مصدر الصوت دهشين ،
فوجدوا الطفلة ملفوفة بدثارها ، وهي تمزق بصراخها هدأة الفجر ، وبادر أحدهم ،
فحمل الطفلة ومضى بها إلى شرطة الحي ليضع القضية بين أيديهم ، فقام هؤلاء بدورهم باتخاذ الإجراءات المعتادة ،
وكانت الخطوة الأولى تحويل الطفلة إلى المستشفى للاطمئنان على صحتها ، وتقدير وزنها وعمرها ، ومعرفة زمرتها الدموية..
وكانت نورا تتابع طفلتها وهي تنتقل من يد إلى يد ، وعندما رأت الشرطي يتجه بها إلى المستشفى طار صوابها ،
وقلب الخوف والقلق كيانها ، وأخذت تحوم حول المستشفى كالحمامة الكسيرة التي سرق العابثون صغارها ، ولم تصبر ،
فصممت أن تطمئن على ابنتها ، لكنها كانت بحاجة إلى عذر تدخل به المستشفى في تلك الساعة المبكرة ،
ولم تلبث أن تناولت أحد دبابيس الشعر التي تشكل بها شعرها ، وأحدثت بطرفه الحاد جرحا في يدها ، لتتذرع به ،
وقد كان قدرها أن يستقبلها الدكتور صلاح ، ويعالجها..
وهكذا حفظ الدكتور صورتها ، واستطاع أن يربط بين تصرفاتها عندما صادفها هنا في الملجأ..
قال المحقق بلهجة المتسائل :
ـ هذا يعني أن نورا لم تقدم على الانتحار!
ـ هذا ما حصل.. كانت مشاعر الأمومة عندها أقوى من اليأس ،
فقررت أن تبقى من أجل طفلتها البريئة ، وتكابد في سبيلها كل المصاعب والآلام..
ـ لكن الذي التقطوا الطفلة وجدوا معها مبلغا من المال!.. من أين حصلت نورا على المال؟
ـ من الدكتور شريف..
ـ الدكتور شريف؟!..
ـ نعم.. فعندما ذهبت نورا إلى الدكتور شريف ترجوه أن يتزوجها ويجنبها الفصيحة ،
رفض كما ذكرت لكم في البداية ، فأخبرته بأنها حامل ، وطلبت منه أن يتحمل مسؤوليته نحو الجنين الذي أثمرته جريمته..
لكنه أمعن في الرفض ، وطلب منها أن تسقط جنينها ، وعرض عليها مبلغا كبيرا من المال يغطي تكاليف عملية الإجهاض..
ظنت نورا في البداية أن الإجهاض قد يكون مخرجا معقولا من الفضيحة التي تنتظرها ، فأخذت المبلغ ووافقت واحتفظت بالمبلغ ،
وقررت أن توفره للطوارئ ، وعندما تخلت عن طفلتها ، وضعت المبلغ معها حتى يستعين به من يجدها على رعايتها..
قطب المحقق متفكرا ، واستغرقته برهة من التأمل ، ثم ما لبث أن قال للمديرة :
ـ بقيت نقطة غامضة بحاجة إلى توضيح..
ـ ما هي؟..
ـ أقوالك تفيد بأن نورا كانت فتاة ذات ضمير يقظ ، وسلوك مستقيم..
ـ هذا ما أشهد به ، وأصر عليه..
ـ كيف تكون فتاة بهذا السلوك ، ثم تسمح لشاب مستهتر كالدكتور شريف باغتصابها؟
ـ اغتصبها عنوة!
ـ عنوة؟
ـ أفقدها وعيها ، ثم اغتصبها..
ـ أريد القصة بالتفصيل..
وشرعت المديرة تروي قصة اغتصاب نوار بالتفصيل..
كنت أصغي إليها بألم ، وأنا أغالب مشاعر الغضب والثورة التي اجتاحتني كالإعصار..
لم أتوقع أن في العالم نفوسا قذرة بهذا الخبث وهذه الدناءة!
تذكرت فلما وثائقيا شاهدته عن التكاثر عند الحيوانات..
في تلك اللحظة ، لم أجد فرقا كبيرا بين حياة الغابة وحياة المدينة!...
كم يبدو الإنسان تافها وحقيرا عندما يتخفف من إنسانيته ويتحرك من الحياة كحيوان البراري..
يأكل حتى التخمة ، ويمارس الجنس مع أي عابر ، ثم يسترخي ، ويغط في نوم غليظ ،
لا توقظه منه إلا الرغبة والجوع..
ثمة معلومات مهمة أقلقتني..
ورد في كلام المديرة أن الدكتور شريف كان قد تقدم لخطبة أحلام قبل أسبوع من مقتل نورا ،
وهذا ما دفع نورا للذهاب إلى المركز الثقافي يوم افتتاح معرض أحلام ،
فقد كانت تريد أن تفضحه أمام الفتاة التي يفكر بالزواج منها ، وبذلك تنتقم من الدكتور شريف ، وتزلزل أحلامه ،
ما أقلقني وأقض مضجعي ، أن المديرة قد ذكرت في حديثها أن والد أحلام قد وافق على الخطبة ،
ووزع الحلوى في شركته بهذه المناسبة ، أيكون قد بنى موافقته على موافقة أحلام؟!..
وأحسست بشيء غامض يعتصر قلبي داخل قبضته ، لا أستطيع أن أرى أحلام زوجة لغيري كائنا من كان!..
فكيف وأنا أراها تُزَفُّ إلى وغد؟!!!...

۞ الفصل الثاني والثلاثون ۞

ـ دكتور شريف ... أنت متهم باغتصاب وقتل المغدوره نورا سنديان!..
بهذه الكلمات الصاعقة داهم المحقق الدكتور شريف الطيب مدير شركة الذهبي للتجارة العامة..
دكت كلمات المحقق هدوء الدكتور شريف ، وأطاحت بابتسامته الواثقة التي استقبلنا بها ، حملق في ذهول ،
وتلفت حوله كمن تلقى صفعة هائلة!..
ـ عفوا ، ماذا قلت؟
ـ كما سمعت ، أنت متهم بالاغتصاب والقتل ،
قتل الآنسة نورا التي كانت تعمل هنا موظفة طباعة باللغة الإنكليزية..
انهار الدكتور شريف على كرسيه كجدار يتداعى ، ثم قال بنبرة وانية وهو يتظاهر بالدهشة والبراءة :
ـ حضرتك فاجأتني.. لا أعرف عم تتحدث!..
ابتسم المحقق وقال وهو يخترق الدكتور شريف بنظراته :
ـ كلامي واضح..
ـ عفوا!.. يبدو أنك لا تعرفني!!..
ـ زدني تعريفا..
ـ أنا الدكتور شريف الطيب ، دكتوراه في الاقتصاد من الولايات المتحدة ،
ومدير شركة الذهبي التجارية أكبر شركة في البلد ، أنا موطن صالح ،
منهمك في عملي ، ولست متسكعا أو بلطجياً حتى توجه لي هذه الاتهامات!..
تضاحك المحقق ساخرا ، وجعل يدور حول مكتب الدكتور شريف في محاولة للعبث بأعصابه المتوترة ،
ثم توقف خلفه برهة ، وقال وهو يربت على كتفه بلطف :
ـ دكتور شريف.. المتسكعون والبلطجية وقطاع الطرق ، نعرفهم وحدا واحدا ،
لكل واحد منهم عندنا ملف وصورة وعنوان..
ثم أردف المحقق وهو يميل على أذن الدكتور شريف هامسا :
ـ المجرمون الذين نواجههم هذه الأيام ـ للأسف ـ أنيقون ومهذبون وأذكياء ، وهو أحيانا مثقفون ورجال أعمال!..
ثم اختار المحقق كرسيا مقابل الدكتور شريف فاسترخى عليه وهو يقول :
ـ في مجتمعنا ـ يا عزيزي ـ كل شيء يتطور ، حتى الجريمة..
فَقَدَ الدكتور شريف سيطرته على أعصابه ، فهبَّ واقفا وصاح باهتياج محموم :
ـ أنا لست قاتلا..
استقبل المحقق ثورة الدكتور شريف ، ببرود شديد ،
وسدد إليه نظرة ساخرة يسطع منها بريق ثاقب ،
ولم يصمد الدكتور شريف لنظرة المحقق الصارخة بالتكذيب والاتهام ،
فخرَّ جالسا كمن صرعه شعاع من الليزر ، وردد بصوت واهن مثقل بالرعب :
ـ أنا لم أقتل نورا.. أقسم لكم بأني لم أقتلها..
وشعر المحقق بأن الدكتور شريف قد بدأ يتصدع من الداخل ، وأن مقاومته بدأت تتراخى ، فانهال عليه بالأسئلة :
ـ اسمك وعملك وعنوانك؟
ـ اسمي شريف عبد الجبار الطيب.. أعمل مديرا لشركة الذهبي من ثلاث سنوات..
أقيم في الضاحية الغربية ـ شارع السفارات ـ فيلا رقم (11)..
ـ مؤهلاتك العلمية؟
ـ دكتوراه في الاقتصاد وإدارة الأعمال من الولايات المتحدة..
ـ متى تخرجت..
ـ منذ خمس سنوات..
ـ كيف كنت تؤمن مصاريف دراستك؟
ـ عن طريق الوالد..
ـ ما هو عمله ؟
ـ مدرس رياضيات..
ـ يعني ليس ثريا كما توقعت!..
ـ هل لهذا علاقة بالتحقيق؟..
ـ كل شيء مفيد في التحقيق..
ـ الوالد رجل متوسط الحال.. وقد كان يقوم بإعطاء الدروس الخصوصية بعد الدوام ،
ليوفر لي مصاريف الدراسة في أمريكا..
ـ وتقيم في فيلا؟!
ـ أعتقد أن هذه ليست جريمة..
ـ ملك أم إيجار؟
ـ ملك..
ـ كيف تسنى لك امتلاك فيلا في الضاحية الغربية ، ولم يمض على تخرجك سوى خمس سنوات؟
ـ الفضل يعود للسيد عبد الغني صاحب الشركة هو الذي ساعدني في شرائها..
ـ مقابل؟
ـ مقابل خدماتي..
ـ خدمات من أي نوع؟
ـ خدماتي كمدير للشركة..
ـ ألا تلاحظ معي بأن السيد عبد الغني سخي أكثر مما يجب؟
ـ لا يبدو لي الأمر كذلك!
ـ وضّح..
ـ كل ما في الأمر أن السيد عبد الغني إنسان عملي.. إنسان ذكي يحاول دائما أن يكسب إخلاص موظفيه..
يحاول أن يحرض عندهم الطموح ليعملوا بدأب ونشاط وحماس.. لذلك يقدم لنا حوافز عالية..
شمل المحقق الدكتور شريف بنظرة تصرخ بالشك ، ثم قال :
ـ الحافز يمكن أن يكون مكافأة في السنة.. مكافأة كل ستة أشهر ، لكن فيلا؟.. هذا غير مقنع.. أليس كذلك؟
ـ عفوا.. الأمور ليست بهذه الصورة..
القصة وما فيها أنني عندما بدأت العمل مع السيد عبد الغني
أبديت تفانيا وإخلاصا وكفاءة ، فأراد السيد عبد الغني أن يشجعني ،
ويعتمد علي في أعماله أكثر ، فجلس معي ذات يوم سألني عن أحلامي وطموحاتي ،
فأخبرته بأني أحلم بفيلا ، وسيارة ، وراتب كبير..
ـ وماذا بعد؟..
ـ قال بأنه يبحث عن موظف يملك كفاءتي وإخلاصي ، ووعدني بأنه سيحقق لي كل طموحاتي وأحلامي ،
إن أنا عاهدته على الاستمرار بنفس النشاط والتفاني ، وحققت للشركة المزيد من المكاسب والإنجازات..
ـ هل وفى بوعده؟
ـ أجل.. رفع راتبي إلى المستوى الذي طلبته ، وأهداني سيارة ،
وكان يملك فيلا في الضاحية الغربية فسجلها باسمي..
قاطع المحقق الدكتور شريف قائلا :
ـ دكتور شريف.. لا تحاول إقناعي بأن السيد عبد الغني أعطاك الفيلا دون ضمانات تكفل له حقه فيما لو..
ـ طبعا.. طبعا.. كانت هناك ضمانات..
ـ ما هي؟
ـ وقعت على مئة وصل أمانة بثمن الفيلا ، واتفقنا على أن يسقط عني وصلا منها ،
كلما حققت للشركة إنجازا مهما أو صفقة رابحة..
ـ كم وصل أمانة سقط عنك حتى الآن؟
ـ خمسة عشر..
ـ خلال؟
ـ خلال عامين ونصف العام تقريبا..
ـ مباراة طريفة..
ـ كلانا مستفيد..
ـ لكنها مباراة مرهقة في ذات الوقت..
ـ لماذا؟
ـ لأن إيصالات الأمانة أو ما يدعى بالكمبياليات ستظل عبئا مزعجا على كاهلك حتى تتخلص منها ،
ومن المسؤولية القانونية الجسيمة المترتبة عليها ، فيما لو دب خلاف بينك وبين السيد عبد الغني ،
أو أخفقت في تحقيق المزيد من الإنجازات..
ـ هذا صحيح.. لكنها حافز آخر على كل حال..
شعوري بضرورة التخلص من هذه الايصالات سيشحذ همتي دائما لتحقيق المزيد من الصفقات والنجاحات..
قال المحقق بنبرة ذات مغزى :
ـ وقد تضطر للقيام بصفقات غير مشروعة من أجل تحقيق نجاحات سريعة!
نظر الدكتور شريف إلى المحقق في قلق وقال :
ـ هل أفهم أنك تتهمني بالقيام بصفقات غير مشروعة؟
تجاهل المحقق سؤاله ، وقال :
ـ ماذا تعرف عن نورا سنديان؟
ـ كانت موظفة بسيطة تعمل هنا.
ـ يقولون بأنها كانت جميلة!
ـ احتكاكي بها كان قليلا..
ـ كيف كان سلوكها في العمل؟
ـ لا أحب الإساءة للأموات..
ـ أريد إجابة محددة..
ـ الكل يجمع على أنها كانت فتاة فاسدة..
ـ ما هو دليلهم؟
ـ أنت تعرف كيف تنتشر مثل هذه الأخبار..
ـ أريد رأيك أنت؟..
ـ لولا تصرفاتها معي لما صدَّقت..
ـ كيف تصرفت معك؟
ـ راودتني عن نفسها أكثر من مرة!
ـ لكنك قلت بأن احتكاكك بها كان قليلا..
ـ قليلا ، وليس معدوما..
ـ كيف تجرأت على ذلك والفرق الوظيفي بينكما بعيد؟
ـ هذا ما حصل.. كانت وقحة.. ظنت أنها بذلك تتقرب مني ، وتطور وضعها الوظيفي..
فقد كانت حالتها المادية سيئة وكانت بحاجة إلى مال..
ـ ماذا فعلت عندما راودتك عن نفسها؟
ـ طردتها طبعا.. فصلتها من العمل..
ـ يقولون بأنها شكتك للسيد عبد الغني ، واتهمتك باغتصابها..
ـ كان طبيعيا أن تتصرف كذلك ، لكن السيد عبد الغني لم يضع لاتهاماتها ، وطردها من مكتبه..
ـ يقولون أيضا : إن نورا قد وضعت يدها على أوراق خطيرة تثبت أن الشركة تمارس أعمالا غير مشروعة..
ـ هذا كلام مختلق ، أوراق الشركة تحت تصرفك وتستطيع أن تتحقق من كل شيء بنفسك..
ـ هل تتجر الشركة بالأدوات الطبية؟
ـ الشركة تتجر بكل شيء.. لها مستشارون في معظم حقول التجارة ،
وهي تقدم دائما على الاتجار بالأصناف الرائجة والمطلوبة في السوق..
ـ كالمحاقن الطبية مثلا؟
ـ المحاقن الطبية لم تعد تجارة رابحة ، لقد تنبه التجار إلى رواجها وأغرقوا بها السوق..
ـ تستطيع أن تنافسهم!
ـ كيف؟
ـ تنزل السعر..
ـ سعر المحقنة البلاستيكية زهيد ، والمنافسة فيه غير مجدية..
ـ عندما تستورد كميات هائلة من المحاقن التي انتهى زمن استعمالها ،
ستكون كلفة المحقنة الفاسدة أقل بكثير من كلفة المحقنة الصالحة للاستعمال ،
وسيصبح من الممكن طرحها في السوق بسعر منافس ، مع المحافظة على أعلى ربح!..
قال الدكتور شريف بلهجة تكلف فيها الورع :
ـ لا.. لا.. هذا غش لا يجوز..
لم يكترث المحقق بورعه الكاذب ، فأردف يقول :
ـ وعندما يكون طموحك أن تحقق المزيد من الصفقات السريعة
وتتخلص من إيصالات الأمانة التي تعيق امتلاكك الكامل للفيلا..
عندئذ ، يمكن أن تكون صفقة المحاقن الفاسدة خطوة على طريق أحلامك المريضة..
ـ سيدي.. أنا رجل عندي ضمير ، و...
ـ وعندما تكتشف فتاة كنورا سر جريمتك البشعة صدفة ، تصبح هذه الفتاة البريئة عقبة مزعجة في طريق طموحك تجب إزالتها بأية وسيلة..
هتف الدكتور شريف منكِرا :
ـ أنا لم أقتل نورا..
ـ اغتصبتَها ثم قتلتها ، ثمة أدلة كافية لإدانتك..
ـ أقسم لك بأني لم أقتلها..
ـ أين كنت مساء السبت بين السادسة والواحدة ليلا..
ـ كنت.. كنت..
ـ أين؟..
ـ سهرت مع أحد الأصدقاء..
ـ أين؟..
ـ هل هذا مهم؟
ـ يجب أن تثبت مكان وجودك ساعة وقوع الجريمة..
ـ كنت في سهرة مع صديقة..
ـ أين؟
ـ في بيتها..
ـ من هي؟
ـ لا أستطيع ذكر اسمها..
ـ لماذا؟
ـ لأنها.. لأنها سيدة متزوجة..
ـ أتخشى من زوجها على نفسك؟
ـ لو كان رجلا عاديا لهان الأمر!..
ـ أنت في موقف صعب لا تحسد عليه..
ـ صدقوني أنا لم أقتل نورا..
نهض المحقق في حزم وقال بنبرة حاسمة :
ـ يبدو أنك لا تريد أن تعترف.. أنا مضطر للقبض عليك..
رفع الدكتور شريف إلى المحقق نظرات زائغة فيها توسل وضراعة ، ثم همس في ذهول :
ـ لست قاتلا..
ـ لم تقدم دليلا على براءتك..
ـ يا لها من نهاية!..
ـ تفضل معنا بهدوء..
ـ هل تصدقني إذا قلت الحقيقة؟
قال المحقق وهو يهز سبابته كالمتوعد :
ـ إذا قلت الحقيقة..
ـ وهل سيخفف ذلك عني..
ـ كثيرا..
أطرق الدكتور شريف إطراقة الذليل ، وداوم الإطراق برهة ، فبدا كالمتردد ،
وطال صمته حتى ضاق المحقق به ذرعا ، فقال له بنبرة غيظ :
ـ هل ستعترف ؟ أم...
رفع الدكتور شريف وجها شاحبا مخضلا بالدموع ، وشخص بنظراته الكسيرة نحو شيء ما ،
وكأنه ينظر إلى حطام أحلامه وقد تكومت أمامه كأنقاض بنيان منهار ،
ثم أنشأ يروي اعترافاته كمن يخاطب نفسه..
قال بلهجة تشي بالحسرة والندم :
ـ كان هذا اليوم دائما ماثلا أمامي..
إنه النهاية الرهيبة التي كنت أخشاها ، لكن أحلامي الكبيرة ، وطموحاتي الجشعة كانت تشدني بقوة..
تجذبني إليها ببريقها الأخاذ ، وسرابها الخادع ،
ثمة سؤال كان يؤرقني ولا أجد له جوابا ،
لماذا لا يحق لي أن أتمتع بالحياة كما يتمتع بها المترفون؟
ألأني ولدت من أب لم يتسطع أن يكون أكثر من مدرّس؟!..
وذهبت إلى أمريكا للدراسة..
تمكنت من الحصول على الدكتوراه في فترة قياسية ،
وعدت إلى وطني مشحونا بنشوة الفوز ، وبدأت أطرق أبواب العمل..
بحثت عن وظيفة كبيرة تليق بمؤهلي العالي ، وتؤمن لي الحياة الناعمة الرغيدة التي أحلم بها..
فوجئت بأن الشهادات العالية لم تعد جواز سفر يؤهل أصحابها للعبور إلى المجد الذي يحلمون به..
ثمة شهادات كثيرة ، وعلى صاحب الشهادة أن ينتظر دوره في سلم الصاعدين..
والتفت حولي فوجدت بعض أقراني ممن فشلوا في دراستهم ، وتركوا المدرسة في مراحلها الأولى..
وجدتهم قد أصبحوا رجالا مرموقين في المجتمع دون أن تقف الشهادة عائقا في طريقهم إلى الثروة والعز والجاه!..
قابلت أحدهم ذات يوم..
كان تلميذا خائبا بليدا ، اضطر إلى ترك المدرسة بعد أن رسب في الصف الرابع الابتدائي لمدة عامين متوالين ،
فاشتغل أجيرا في محل لبيع الفلافل..
صادفته بعد عودتي من أمريكا..
كان يقود سيارة مرسيدس من النوع الذي حلمت به كثيرا ، لم أصدق ،
قال : "اصعد" ركبت معه ، وسألته عن هذا العز الذي ينعم فيه ،
ضحك وقال : "الفلافل!.. هذه بركات الفلافل!..
أليست خيرا من السهر والدراسة ووجع الدماغ؟.."..
وسألني عن آخر أخباري ، فأجبته بأني عدت من أمريكا بشهادة الدكتوراه ،
ولا أجد عملا ، نظر إلي متعجبا وقال :
"
أنا أعرف أن الأطباء يحققون دخلا ممتازا ، كيف لا تجد عملا وأنت دكتور من أمريكا؟!..".
ضحكت وتحسرت.. صديقي بائع الفلافل يظنني طبيبا!..
وضحت له طبيعة اختصاصي ،
فابتسم وقال : "لماذا لا تأتي وتستلم إدارة مطعمي الجديد؟ عندي مطعم حديث ،
وابحث عن عمن يدير شؤونه ، وأنت أولى من الغريب..".
هزئت بكل شهاداتي..
ما ضرني لو أني تركت الدراسة مثل صاحبي وانخرطت في سلك الفلافل؟!..
واستبسلت في البحث عن فرصة كبيرة حتى وصلت إلى هذه الشركة ،
ووجدت فيها مستقبلي الذي كنت أنشده..
امتحن السيد عبد الغني قدراتي في البداية ، وعندما وثق بكفاءتي وإخلاصي أغرقني بالحوافز والمكافآت ،
جعلني أتذوق طعم النجاح ، ثم أمسك بأحلامي بقبضة واثقة تعرف متى تمنح ، ومتى تمنع؟..
كالمروض في السيرك.. يحمل السوط بيد ، وقطعة اللحم بيد ، ثم يحرك أُسوده كيفما يريد..
وعشت في سباق مع الزمن..
كانت أمنيتي أن تنطوي الشهور بلمح البصر ، حتى ينمو رصيدي في البنك ،
وتصبح الفيلا ملكي ، وأدخل عالم الأثرياء..
ووجدت في السوق فرصا لتحقيق نجاحات سهلة ، فيها بعض التجاوزات المأمونة ، فأردت الاستفادة منها ،
لكني أحببت استشارة السيد عبد الغني قبل أن أقدم عليها..
قال لي السيد عبد الغني : "أنا لم أدخل الجامعة مثلك ، لكني أعرف كيف أرسم الخطوط البيانية ،
وأحب أن أرى الخط البياني لأرباح الشركة في صعود مستمر ،
عندما أرى الخط البياني للأرباح ماضياً في الصعود ، أطمئن إلى أن من أعتمد عليهم أهل للثقة ،
وعندما يتوقف خط الربح أو يهوي أعرف أن من أعتمد عليهم قد فشلوا واستنفذوا أغراضهم ،
انطلق إلى عملك ، ولا تشاورني بعد اليوم في شيء..".
كانت هذه الكلمات هي الضوء الأخضر الذي سمح لي بالانطلاق بأقصى سرعة..
بدأت أحصد الفرص السهلة ، واجتهدت في هندسة الإطار القانوني لكل تجاوز ،
وبدا لي الطريق إلى الثروة ممهدا محفوفا بالزهور ،
لكن القدر لم يرحمني ، فأرسل إلي نورا لتقف في طريقي ، وتعيق اندفاعاتي المجنونة..
وسكت الدكتور شريف ، وغاب برهة في أحضان الصمت..
كانت ملامحه غارقة في الندم..
بدا وكأنه يلم شتات نفسه من تحت أثقال الخزي والعار ، ليبوح بالجزء الأبشع من جريمته ،
واستأذن المحقق في تدخين سيجارة.. لعله أراد أن يخدر بدخانها المسموم شعوره بالذنب!..
ونظرت إلى ساعتي في قلق.. كانت الساعة تسعى نحو الثامنة ، وقد شارف دوام الشركة على الانتهاء ،
لابد أن أحدهم قد أخبر عبد الغني بأن مديره المدلل يتعرض للتحقيق ،
لكنه لم يكترث!.. لم يظهر حتى الآن!..
لعله قد تخلى عن خطيب ابنته بعد أن كشفته جرائمه!..
آه. لا أصدق أن أحلام توافق على وغد كهذا!..
أيلجئها ما حدث بيننا إلى التفريط بحبها ، والرضاء بأي رجل؟..
وأي رجل؟.. رجل ممن كرهتهم دائما أحلام!
أغلب الظن أنها قد تعرضت لضغوط عنيفة من أبيها ، لعله قد أرغمها على هذا الزواج..
مستحيل!.. أحلام لا يمكن أن توافق..
في الأمر غموض محير أتمنى لو اكتشفه!..
ورحت أسترجع أحداث هذا اليوم العاصف في ألم.. ترى؟ كيف تلقى الأهل والأصدقاء نبأ اعتقالي؟..
نظرت إلى المحقق في شرود.. كان يقتحم الدكتور شريف بنظرات ثاقية متوثبة ،
تريد لو تنفذ إلى صدره لتعرف ما يخفيه من حقائق ،
أما الدكتور شريف ، فقد كان يتهرب من نظرات المحقق العنيدة المتفحصة ،
متشاغلا بسيجارته التي كان يتأملها وهي تتآكل سريعا بسبب شراهته البشعة في التدخين ،
أعجبتني طريقة المحقق في العمل إنه يتحرك بسرعة حتى لا تضيع منه الخيوط..
يفاجئ المشبوهين باتهاماته الصاعقة ، قيل أن يرتبوا دفاعهم..
يفرز خيوط الحقيقة بعناية ثم يصل بينها بذكاء..
أينجح في الوصول إلى القاتل في يوم واحد؟!..
أيكون الدكتور شريف حقا هو القاتل؟!..
ما الذي حشرني في كل هذه الأحداث؟!..
وخرج الدكتور شريف عن صمته ،
قال : وهو يزفر النفس الأخير من سيجارته :
ـ لم يخطر لي يوما أن أؤذي نورا ، ولم أكن لأهتم بها لولا صدفة..
صدفة يمكن أن تحدث في أي مكان..
فقد اجتمعت في الشركة موظفتان تدعيان نورا..
نورا سنديان المرحومة ، وكانت تعمل طابعة باللغة الإنكليزية ،
ونورا كامل المسؤولية عن رسائل التلكس ، وهي موظفة قديمة يأتمنها السيد عبد الغني على أسرار كثيرة ،
وهي أيضا مسؤولة عن حفظ الوثائق والعقود والرسائل الخاصة بالشركة..
وحدث أن ورد إلينا تلكس من شركة أمريكية للصناعات الطبية ،
تعرض فيه علينا شراء كمية هائلة من المحاقن البلاستيكية التي انتهى زمن استعمالها بأسعار زهيدة ،
فكرت في العرض ، فوجدت فيه فرصة للمكسب السهل..
قفزة جديدة تقربني من أحلامي..
كانت المحاقن من النوع المطلوب في السوق ، وكان بإمكاني تسويقها بسرعة ، ولم أتردد..
تناولت ورقة وكتبت الرد.. لا مانع لدينا من استيراد الكمية المذكورة شريطة تمديد تاريخ الاستعمال..
وكان أحد المستخدمين قد جاءني بالشاي ، فسلمته الرد المكتوب وطلبت منه أن يعطيه لنورا..
حمل المستخدم الرد ومضى به ، وما كاد يغيب حتى تذكرت شيئا مهما.. تذكرت أني لم أحدد للمستخدم أية نورا قصدت ،
وأن الأمر قد يلتبس عليه ، ولا سيما أنه مكتوب باللغة الإنكليزية.. أسرعت خلفه إلى غرفة المرحومة نورا ، وكانت قريبة من مكتبي ، فوجدت المستخدم خارجا منها..
أدركت أن ما خشيت منه قد وقع ، وكان علي أن أتصرف بسرعة..
دخلت على نورا ، فطالعت في عينيها نظرة اتهام ، قالت بجرأة لم أتوقعها :
ـ لم يخطر لي أني أعمل في شركة تتاجر بالبضائع الفاسدة!
ماذا أفعل؟..
قلت لها متجاهلا :
ـ بضائع فاسدة!!.. آنسة نورا عم تتحدثين؟..
قالت محتدة :
ـ أتحدث عن المحاقن البلاستيكية التي انتهى تاريخ استعمالها ، وتنوي استيرادها..
ضحكت وأغلقت الباب..
قلت لها مهونا من جسامة الأمر :
ـ آنسة نورا أنت منفعلة أكثر مما يجب ، ماذا تتوقعين أن يحدث للمحاقن بعد انتهاء المدة المحددة للاستعمال؟..
إنها مواد بلاستيكية لا تؤكل ولا تشرب ، ولا ضرر من استعمالها بعد نهاية تاريخ الاستعمال..
لم تقنعها كلماتي..
قالت بمنطق بسيط ، لم أدر كيف أواجهه :
ـ إذا كان استعمال المحاقن البلاستيكية بعد انتهاء التاريخ المحدد لها غير ضار ،
فلماذا تسجله الشركات الصانعة على غلاف كل محقنة ، وتهتم به إلى هذا الحد؟..
احترت كيف أستوعبها؟!.. إنها عنيدة وذكية ، من النوع الصلب الذي لا يلين..
الحق أني احترمت جرأتها وشجاعتها ، لكن الموقف بالنسبة لي كان خطيرا وعصيبا..
أحسست أن هذه الفتاة الجميلة البريئة يمكن أن تزلزل بلسانها مستقبلي ،
وتحيل أحلامي إلى سراب ، في تلك اللحظة تذكرت فيلما كنت قد شاهدته في أمريكا ،
فأوحى لي الفيلم فكرة مجنونة.. تظاهرت بالندم..
قلت لها بلهجة استكانة وضعف :
آنسة نورا ، هل تصدقيني إذا بحت لك بسر؟..
نظرت إلي حائرة ولم تجب!..
تابعت قائلا :
ـ قد أبدو لكم أني مدير الشركة ذو الصلاحيات الواسعة ، لكن الحقيقة غير ذلك تماما..
حدقت بي أكثر وتابعت الإصغاء..
أردفت متنهدا :
ـ إنما أنا منفذ أوامر.. أنفذ كل ما يطلبه مني السيد عبد الغني صاحب الشركة..
السيد عبد الغني هو الذي وافق على صفقة المحاقن الفاسدة ، وهو الذي أمرني بكتابة الرد الذي في يدك..
ألقت نورا نظرة على الورقة التي في يدها ، وكأنها تراجع ما جاء فيها ثم قالت :
ـ لا يعنيني من هو الذي أمر بالرد أو نفذه..
كل ما يعنيني أني أمام جريمة لا يجوز السكوت عنها ، وواجبي أن أبلغ عنها السلطات..
ارتج قلبي خوفا ، لكني تماسكت وتظاهرت بالندم..
قلت في هدوء :
ـ هذا ما كان علي أن أفعله منذ زمن!..
لا أدري لماذا ظلت تنظر إلي في شك وحذر!..
وكدت أيأس من خداعها لولا أن قالت :
ـ كلامك يوحي بأن هناك جرائم أخرى من هذا النوع!..
أيقنت أن حيلتي بدأت تنطلي عليها ، فقلت :
ـ للأسف ، هذا صحيح وقد راودتني نفسي أكثر من مرة على إبلاغ الشرطة بما يجري في الشركة من مخالفات خطيرة ،
لكني جبنت ، خشيت أن يشملني القضاء بالعقاب ،
فأخسر سمعتي ومستقبلي..
هنا قالت نورا في حماس :
ـ يجب ألا تتستر على ما يجري
والقضاء ـ فيما أعلم ـ يسامح من يبادر إلى كشف المجرمين وفضح جرائمهم..
أدركت أن نورا قد ابتلعت الطعم..
فقلت متظاهرا بالتوبة :
ـ الحمد لله الذي أرسلك إلي في الوقت المناسب ،
كنت بحاجة إلى إنسان يشجعني على هذه الخطوة..
قالت وكأنها تختبر صدقي :
ـ ماذا تنتظر إذن ، هيا بنا لنقوم بواجبنا ،
ونبلغ السلطات ، هذا أمر لا يحتمل التأجيل..
قلت لها مستجيبا لفكرتها :
ـ أنت على حق ، هذا أمر لا يجوز تأجيله ، لكن..
سألت في شك :
ـ لكن ماذا؟..
أجبت على الفور :
ـ لكن القضاء لا يصغي لأي إدعاء ما لم يكن مؤيدا بالأدلة والإثباتات..
نظرت إلي قلقة ، وقالت:
ـ ألا تملك أدلة على ما تعرف؟..
ابتسمت وقلت :
ـ اطمئني ، لقد احتطت للأمر منذ البداية ، فاحتفظت بصور عن كل الصفقات المخالفة التي تورطت فيها الشركة ،
أحتفظ بها عندي في البيت ، سنعرج على البيت لإحضارها في طريقنا إلى قسم الشرطة..
وافقت ولكن ، بحذر ، لم تكن سهلة كما تصورت ،
ومضيت بها إلى المنزل ، وطلبت منها أن تدخل ، لكنها رفضت ، ماذا أفعل؟..
كان يجب أن تدخل إلى البيت بأية وسيلة ، لآخذ ما أردته منها !..
لم أيأس ، أسرعت إلى الداخل ، فحضرت كأس عصير ، ووضعت فيه المخدر ،
ثم طلبت من الخادمة التي تعمل لدي في الفيلا أن تذهب بالعصير إلى الآنسة نورا ،
ورحت أرقبها من نافذة مطلة على المدخل..
قدمت الخادمة العصير لنورا ، فأخذته بامتنان..
راقبتها وهي تتناوله رشفة رشفة.. أصبحت مهمتي الآن أسهل..
أحضرت كاميرتي ، ونزلت..
كانت نورا قد بدأت تفقد وعيها رويدا رويدا..
ويبدو أنها وهي تغادر وعيها ، قد فطنت لما بيَّتُه لها ، فحاولت أن تفتح الباب وتهرب ،
لكني منعتها دون أن أحتاج إلى قوة تذكر ،
ولم تلبث أن غابت عن الوعي ، فانطلقت بها إلى غابة بعيدة تقع في ظاهر البلد وهناك.....
وأطرق الدكتور شريف في خزي ، لم يجرؤ أن يصف نفسه وهو يتصرف كالوحوش المسعورة ،
نظرتُ إليه في تقزز ، وأنا أقاوم شعورا بالغثيان..
وقال المحقق وهو يحدجه :
ـ وهناك عرَّيتها ، واغتصبتها ، والتقطت لها مجموعة من الصور وهي في أوضاع فاضحة ، لتضغط بها عليها ،
وتهددها بإيصال الصور إلى أهلها وذويها إن هي باحت للسلطات بما عرفته عنك من غش واحتيال..
أجهش الدكتور شريف وانفجر باكيا ، وقد بان الذل والندم في تعابيره الشاحبة ، وأردف المحقق دون أن يرحمه :
ـ ولما أخذت نورا تطالبك بإصلاح غلطتك فصلتها من العمل ، وعندما علمت أنها أنجبت منك ،
هددتها بالقتل ، وعندما تمردت على تهديداتك الحقيرة ، وشكتك للسيد عبد الغني ،
خططت لقتلها ، وعندما شاهدتها مع الدكتور صلاح في المركز الثقافي خشيت أن تبوح بحقيقتك البشعة للدكتورة أحلام ،
التي كنت قد تقدمت لخطبتها من أبيها قبل أسبوع من افتتاح المعرض ،
فصورتها مع الدكتور صلاح ، واستدرجتها في اليوم التالي إلى مكان بعيد ،
وهناك أقدمت على طعنها بسكين ، وألقيت الصورة بجانب الجثة لتضلل العدالة..
هتف الدكتور شريف :
ـ أقسم لك بأني لم أقتلها حتى أني لم أكن أنوي اغتصابها لولا..
شمله المحقق بنظرة ساخرة ، وقال بهدوء :
ـ لولا ماذا؟
قال الدكتور شريف بنبرة كسيرة :
ـ كنت أنوي فقط أن ألتقط لها بعض الصور ،
ولكني عندما رأيتها عارية أمامي!... الله يلعن الشيطان...
قال المحقق هازئا وهو ينهض :
ـ حتى الشيطان يترفع عن ارتكاب ما أقدمت عليه ، دكتور شريف أنت متهم بالاغتصاب والقتل ، تفضل معي بهدوء..

۞ الفصل الثالث والثلاثون ۞

ـ "حكمت المحكمة حضوريا على المتهم الدكتور شريف عبد الجبار الطيب بالإعدام شنقا حتى الموت
بتهمة الاغتصاب والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وقد تمت إحالة أوراقه إلى سماحة المفتي..".
لم يكد القاضي أن ينتهي من الإدلاء بحكمه الأخير ، حتى انبثق من بين الحضور صوت قاصف كالرعد..
ـ هذا ظلم.. ظلم.. ظلم كبير لا يجوز!..
والتفتت الرؤوس المستطلعة نحو مصدر الصوت في فضول وحيرة ، وقد انفلتت من شفاهها عاصفة التساؤلات!..
ـ من هو صاحب الصوت؟..
ـ وماذا يريد؟
ـ وما علاقته بالقضية؟..
ـ وماذا يعرف؟..
وجمدت النظرات الحائرة على فتاة تقف في الصفوف الخلفية من الحضور ،
وهي تنتفض غضبا وحزنا وثورة ، وقد تشنجت أصابعها فوق رأسها كمن يشكو من صداع مدمر ،
وتقلصت ملامحها في كآبة مؤثرة..
وسرت في القاعة همهمة تتعالى ، فهرع القاضي إلى مطرقته الخشبية ،
وأرسل طرقات التحذير لتلجم الجلبة التي سادت المكان ،
فصمتت الألسنة مرغمة ، لكن العيون ظلت تصرخ بالسؤال..
وأدركت أن قنبلة موقوتة ستنفجر..
قنبلة من نوع فريد ، لم يتعرف عليها العالم إلا في أزمنة نادرة من التاريخ..
قنبلة آدمية من النوع المرهف الذي يثير الظلم طاقته الكامنة ، فيتفجر بالعدل ، وينبش الحقائق من الجذور..
وهتفت الفتاة بصوت لاهث يتسارع إيقافه وهو يسعى نحو لحظة الانفجار :
اسمي أحلام.. الدكتورة أحلام الذهبي.. ابنة عبد الغني الذهبي ،
رجل الأعمال المشهور الذي ورد اسمه في هذه القضية ، وبرأت المحكمة ساحته..
ثم أردفت أحلام بنبرة متهدجة مزقها الانفعال :
ـ أرجو أن تسمعني أيها القاضي حتى النهاية ، فأنا أملك معلومات مثيرة ، سوف تحول مجرى القضية ، أرجو أن تسمعوني جميعا ، فما سأقوله مهم وخطير..
ولم تستطع أحلام أن تسيطرعلى انفعالاتها ، فانفجرت باكية وسط دهشة الجمهور وذهوله ،
فأثار بكاؤها النفوس ، وحرك المدامع..
واقترب والد أحلام من ابنته كالذاهل ، وحاول أن يهدئ من روعها ،
لكنها دفعته عنها بعنف ، وأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، وكأنها لا تريد أن تراه!..
تبادل أعضاء المحكمة نظرة يعيث فيها التساؤل والوجوم ، وفغر القاضي فاه دهشة وحيرة ،
وقد تسمرت نظراته التائهة فوق هذه الفتاة اللغز التي تتصرف بغموض مثير!..
وران على المحكمة صمت ثقيل ، فحبس الحاضرون أنفاسهم ،
وقد غاصوا بخواطرهم في دوامة من التساؤلات الملحّة التي تريد أن تفهم ما يجري ،
وأرهفت الأسماع بانتظار ما ستدلي به أحلام من مفاجآت..
وسرعان ما كبحت أحلام مشاعرها ، فكفكفت دموعها ، وتماسكت ،
ثم تقدمت من منصة الشهادة لتدلي بأقوالها ، فرفعت يدها فوق المصحف وألقت اليمين..
ـ أقسم بالله العظيم أن أقول الحق مهما كان مرا ، ولو اتهمني الناس بالجحود أو الخيانة أو الجنون!..
لم يعلق القاضي على صيغة اليمين!.. بل لعله لم ينتبه إليها ، فقد كان غارقا في أفكاره وتوقعاته..
ماذا تريد هذه الفتاة أن تقول؟
وما المعلومات التي تدعي أنها ستغير مجرى القضية؟
أيكون كل هذا الجهد الذي بذله ليفتي في هذه القضية الشائكة ، قد أهدر في اتجاه خطأ ..
أيكون القاتل الحقيقي غير الدكتور شريف الذي ما فتئ ينفي عنه تهمة القتل منذ بداية القضية؟..
واستند القاضي بمرفقه فوق منضدته ، ثم ألقى برأسه المثقل بالأسئلة فوق راحته ،
وراح يصغي إلى أحلام ، وهو يحدق فيها بنظرات يفيض منها الترقب والقلق..
أرسلت أحلام تنهيدة مرة ، ثم قالت وهي تنتصب بقامتها كخطيب مفوه يقف فوق بركان من الكلمات الملتهبة :
ـ سيدي القاضي.. الآن حصحص الحق ، وآن للحقيقة أن تعلو فوق كل اعتبار ،
وآن للضمير الغافي أن يستيقظ من سباته ليمزق الصمت الذليل ، ويصدع بكلمة الحق رغم كل الأنوف..
عذرا أيها القاضي ، فأنا لم آت إلى هنا لأقف فيكم خطيبة ، أو محاضرة..
لكني جئت لأطلق صرخة مدوية سيزلزل صداها أولئك الذين قدسوا المادة ، واستهانوا بالقيم..
أولئك الذين يعيشون بيننا كالبشر ، ويتصرفون كالذئاب.. الذين يتكئون على القانون ليعيشوا فوق القانون..
أولئك الذين يظلمون الناس بضمير مرتاح ، ويسحقونهم بأعصاب باردة ،
ويشربون دمائهم بكؤوس من الفضة..
قد تتساءل أيها القاضي الوقور لماذا انتظرت حتى نهاية المحكمة ، ثم تقدمت لأبوح بما سيغير اتجاه التحقيق ، ويكشف الجاني الحقيقي في هذه القضية؟
سؤال وجيه يستحق الإجابة..
لقد كنتُ يا سيدي ـ أمتحن عدالتكم!.. اختبر قوانينكم!..
أرقب عجزكم في الوصول إلى المجرم ، وهو يخطر أمامكم كالطاوس!..
عذرا أيها القاضي ، فأنا لا أسخر منكم أو أطعن في نزاهتكم ،
لكني أريد أن أبين لكم أمرا على غاية من الخطورة..
لا قيمة يا سيدي لقانونكم في غياب الضمير..
لأن الإنسان عندما يلغي ضميره يستطيع أن يحتال على القانون ،
وأن يقفز فوقه ، وقد يتدرع به ، فيحوله من سلاح في وجه الشر إلى سلاح في خدمة الشر..
نعم.. قانونكم لا يكفي لتحقيق الأمن والأمان..
لابد معه من التربية.. من الأخلاق.. من الضمير..
لأن الضمير عندما يثور يحاكم النفس قبل أن تحاكموها..
يؤنبها بقسوة.. يجلدها.. يطهرها..
يدفعها إلى مواجهة الحقائق مهما كانت مرة وأليمة..
تريدون دليلا على ثورة الضمير؟..
أنا هو الدليل..
فأنا ما كنت لأبوح لكم بما ستذهلون له ، لولا أن كابدت داخلي سياط الضمير وهي تجلدني صباح مساء ،
وتعذبني عذابا أليما يفوق كل احتمال..
نعم.. لقد أرقتني الحقيقة المرّة حتى عجزت عن كتمانها ،
وأنا أرى العدالة البشرية تائهة ضائعة مخدوعة تدين البريء ، وتبرئ المدان..
وعذاب الضمير أيها القاضي لم يداهمني وأنا أتابع هذه القضية على صفحات الجرائد وفي أروقة المحاكم..
بل داهمني منذ عهد بعيد..
عندما اكتشفت بين أوراق والدي شهادة خطيرة تثبت تورطه في جريمة بشعة تذكرونها جيدا..
تلكم هي حادثة العمارة التي انهارت فوق رؤوس ساكنيها ، وسحقت تحتها عددا من الأبرياء..
يومها قالوا : عبد الغني الذهبي لا ذنب له ، المسؤولية كلها تقع على المهندس الذي تلاعب بالمواصفات ،
واقتصد في المواد الأولية ، ليختلس ثمن ما وفره منها ،
وكان المحاسب المسؤول عن حسابات العمارة قد اعترف أثناء التحقيق بأن والدي
هو الذي كان يأمر المهندس المنفذ بالتوفير والاقتصاد في المواد اللازمة لتسليح البناء ،
لكن هذا المحاسب غير أقواله أمام المحكمة ، وأنكرها..
وعندما عادت المحكمة إلى ملفات التحقيق لم تجد الاعترافات الأولى التي أدلى بها المحاسب الحقيقية اختفت من ملفات التحقيق بفعل خائن ،
وشاءت الأقدار أن أكتشفها ، وهاك صورة عنها..
ودفعت أحلام برزمة من الأوراق إلى القاضي ، فراح يقرؤها بإمعان ، ثم نحاها جانبا ،
وعاد بنظراته إلى أحلام ، وكأنه يرجوها أن تكمل ، ولم تلبث أحلام أن قالت بنبرة حزينة :
ـ عندما اكتشفت هذه الأوراق صدمت.. ذهلت..
فقدت احترامي لوالدي ، وفقدت احترامي لنفسي، ولازمني شعور فظيع بأني ابنة مجرم..  مجرم جشع يستهين بأرواح الأبرياء ، ولا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل مصالحه وأطماعه..
ورحت أرقب تصرفات والدي بعيون ملؤها الشك والريبة ،
فحيرتني شخصيته المزدوجة التي يحيا بها بين الناس..
يفترسهم في الليل ، ويضحك لهم في النهار..
لا تنظروا إلي هكذا أرجوكم ، فأنا لست جاحدة ، أو شاذة!..
لا تظنوا أني أستعذب البوح لكم بهذه الاعترافات..
فأنا أعترف لكم كمن يلفظ من جوفه جمرا ونارا ، لكني يجب أن أعترف..
لم أعد أحتمل وجوه الضحايا وهي تحاصرني في الصحو والمنام!..
لم أعد أطيق أن أصغي إلى أرواحها وهي تشكو لي ظلم أبي ، وتشكو مني صمتي وجبني..
لن أرضى بعد اليوم أن أكون شريكة أبي في جرائمه ، فالسكوت عن الظلم جريمة..
لن أطيل.. فأنا ما جئتكم لأحدثكم عن نفسي!..
بل جئتكم لأكشف تفاصيل جريمة حبكها أبي..
الدكتور شريف اغتصب نورا صحيح لكنه لم يقتلها..
القاتل رجل آخر أعرفه!..
رجل غريب كان يتردد على والدي في فترات متباعدة..
رجل غامض.. وجهه دائما مقطب ، وملامحه قاسية كالجليد..
وفي عينيه بريق وحشي يتطاير كالشرر ، ويشع بالرهبة والرعب!..
هذا الرجل كان قريبا جدا من والدي ، لكنه لم يكن يظهر في السهرات أو الحفلات التي كان يقيمها أبي لمعارفه وأصدقائه..
كان دائما يأتي في أعماق الليل ، ويتستر بالظلام..
لا يتكلم إلا همسا.. لا يعرف ما هو الابتسام..
دائما متجهم صامت كأبي الهول..
يأتي بحركات ثابتة لا يغيرها.. يتحرك كالآلة..
لكأنه رجل آلي يتحرك وفق برنامج مرسوم..
كنت أتشاءم منه كثيرا!! فما رأيته مرة إلى وحدثت مصيبة!..
لحظة من فضلكم!..
إني أتذكر الآن.. لقد زارنا هذا الرجل ليلة الهزيمة..
هزيمة الخامس من حزيران.. سألني يومها عن أبي بلهجة جافة وصوت غليظ..
فأخبرته بأنه قد سافر.. رمقني بنظرة جامدة ، ولم ينبس ، ثم مضى ، وتوارى في الظلام..
هذا الرجل زار والدي قبل مقتل نورا بليلة واحدة..
كان الوقت متأخرا ،
وكنت منهمكة في رسم لوحة جديدة ألحت علي فكرتها ،
شاهدت والدي يستقبله بالترحاب ، فاستبد بي الفضول..
من هذا الرجل؟ ما الذي يجمعه بوالدي كل هذه السنين؟!.. اقتربت من مكتب والدي واستمعت لما يدور..
قال والدي : "طلبتك لأمر هام..".
تساءل الرجل : "مهمة جديدة؟".
أجاب والدي : "الفتاة التي طلبت منك أن تصورها مع الدكتور صلاح ليلة افتتاح معرض أحلام..".
سأل الرجل : "ما شأنها؟".
أجاب والدي : "إنها تثرثر كثيرا..".
قال الرجل : "يجب أن ترفع السعر..".
همس والدي : "تبدو فقيرا هذه الأيام..".
قال الرجل : "ثمن المخدر يرتفع..".
ضحك والدي : "كن مطمئنا.. أنا لا أبخل عليك بشيء..".
سأل الرجل : "هل تريد شيئا آخر؟..".
أجاب والدي : "ضع هذه الصورة في حقيبتها وهذه الرسالة!..".
قال الرجل : "تريد اصطياد عصفورين في آن واحد!..".
ضحك والدي طويلا وقال : "بل ثلاثة عصافير.. ثلاثة عصافير من النوع المزعج..".
لم أفهم من هذا الحوار ، ولم أسمع كلاما بعد ذلك ! سمعت حركة وجلبة في الداخل..
صوت خزنة والدي تفتح ثم تغلق ، وصوت سعال شديد كالذي يصاب به المدمنون على التدخين ،
ثم اقتربت الأقدام من الباب ، فتواريت ، ورحت أرقب ما يحدث من بعيد..
خرج الرجل ، وخرج والدي خلفه..
قال له والدي : "لن أوصيك.."
هز الرجل رأسه في ثقة ، ثم مضى..
وأطرقت أحلام برهة ثم تابعت بصوت مختلج :
وعندما علمت بمقتل نورا ، وقرأت تفاصيل الجريمة ،
فهمت معنى هذا الحوار ، وعرفت لأول مرة أن أبي يستعمل رجلا للمهمات القذرة!..
وفاض بها التأثر ، فاندفعت الدموع من عينيها في صمت ،
فكانت دموعها الصامتة الكئيبة أبلغ من كل ما قالته من كلمات..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة