ابحث في الويب



رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 13-15



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء


۞ الفصل الثالث عشر ۞

وصلت إلى البيت بعيد العاشرة بقليل ، فوجدت الأسرة ملتفة حول جهاز التلفزيون المعتاد. ألقيت تحية المساء ، فردت عليَّ الشفاه بحركة آلية ، بينما ظلت العيون مشدودة إلى الشاشة الفضية تراقب ما يدور عليها بشغف. هذا الجهاز الأناني المغرور بات يثير حنقي ، إنه يستطيع أن يلفت الأنظار إليه بقوة ، ويستأثر بها!! قديما.. عندما كنت طفلا صغيرا ، كنت نجم العائلة ، كان الجميع يلتفون حولي ، ويراقبون حركاتي وتصرفاتي.. جدي وجدتي.. أبي وأمي.. وعمي.. حتى عني الثاني الذي كان يدعي بأنه لا يحب مخالطة الأطفال ، كان يستثني من هذا الموقف ، ويقول: " إلا صلاح.." ، ثم يمضي الوقت في محادثتي ومداعبتي..
وعندما ددخل التلفزيون بيتنا انسحبت من تحت الأضواء وتركت الساحة للنجم الجديد الذي يملك قدرة على التسلية والإبهار تفوق تصرفاتي الطفولية البريئة ، وانضممت إلى حلقة المتفرجين. أشاهد بباي وميكي ودونالد دك ، وأتعدى على برامج الكبار ، فأشاهد التمثليات العربية وأفلام الكاوبوي ونشرات الأخبار ، وكبرت قليلا ، فتوطدت علاقتي بصديقي الجديد ، وصرت أرافقه من الافتتاح حتى الختام ، ثم أوقظ جدي الذي كان يكبو وهو جالس أمام الشاشة الصغيرة ، فينهض من كبوته ، ثم يودعني ويمضي لينام..
منذ أن دخل بيتنا عصر التلفزيون أصبحت الروابط العائلية فيه ضعيفة ، انحسرت من حياته سهرات الأنس ، وليالي السمر ، وغادرت منه أحاديث العائلة المفعمة بالحياة ، واختفت النقاشات المحببة التي كانت تدور حول الحي والمدينة والوطن الكبير.. حتى الأقرباء عندما كانوا يزوروننا ، كانوا يتبادلون معنا كلمات الود والمجاملة على عج ، ثم ينضمون إلى حلقة المتفرجين ، فيجلس الجميع أمام التلفزيون بصمت وهدوء ، وكأنهم يؤدون الطقوس البوذية..

اخترت مكانا بين أمي وأبي ، وكثيرا ما كنت أزاحمهما ، لأجلس بينهما ، فيتكلف أبي التأفف مداعبا ، وتضحك أمي وهي تفسح لي مكانا بينهما..
سألني والدي عما مر بي في المستشفى من حوادث وحالات ، شرعت أحدثه عن حالة طفل تناول علبة دواء كاملة في غفلة من والديه ، فأصيب بالتسمم ، غير أن والدي لم ينتظر حتى يستمع إلى بقية القصة ، فقد شده مشهد من مشاهد الفلم العربي الذي كانت تعرضه الشاشة ، وهمت أمي بالنهوض لتعد لي طعام العشاء ، فأمسكت بيدها ، ورجوتها أن تبقى..
قلت لها وأنا أرتاح برأسي فوق كتفها:
ـ لا أشعر بالجوع ، ابق بجانبي..
ربتت أمي على يدي في حنان ، وقالت وهي ترمقني بنظرات متفحصة:
ـ ما بك؟.. تبدو مهموما مشغول البال!..
التفت أخي الأوسط الذي يصغرني مباشرة ، وقال بنبرة احتجاج:
ـ بعض الصمت يا جماعة.. دعونا نتابع الفلم..
نظرت إليه وابتسمت.. إنه دائما مشدود إلى التلفاز.. تنتزعه المسلسلات والأفلام من محيط العائلة لتضعه في أجوائها الخاصة ، قلت لأمي:
ـ ابنك مهووس بهذه الشاشة ، ولن يتخلص من شغفه حتى يتزوج..
ابتسمت أمي وقالت في حزم وهي تشملني بنظرة ودوددة:
ـ لن يتزوج أحد قبلك..
التقط أخي الأصغر كلمات أمي فقال مداعبا:
ـ أخي الكبير طيب القلب ، وسيمنحني دورة بلا شك..
لكزه أخي الأوسط بمرفقه وقال:
ـ اصمت ، دعنا نتابع الفلم...
ـ إنه فلم سخيف..
ـ إذا كان لا يعجدبك فاذهب إلى الغرفة الأخرى..
ـ أريد أن أسهر في هذه الغرفة..
واحتدم بينهما النقاش ، وكاد يتفاقم ، لولا أن تدخل والدي ، فحسمه بصرخة رادعة ، وقالت أمي في إنكار غاضب:
ـ بدأت أكره هذا الجهاز الذي يثير الصراع بين الأشقاء!..
قلت لأمي مهدئا:
ـ دعيهما ولا تكترثي بملاسناتهما ، إياك أن تظني بأن أولادك نسخة واحدة..
عاد أخي الأوسط يرجونا في ضراعة:
ـ أرجوكم يا جماعة ، هذا أول فلم ممتع أراه منذ أشهر ، دعوني أشاهده بهدوء..
أشفقت على أخي ، وذهبت إلى غرفتي ، لحقت بي أمي بعد قليل وهي تحمل فنجانا من الشاي ، قالت وهي تغلق الباب خلفها:
ـ أنت اليوم لست أنت!..
ضحكت:
ـ هل هذه أحجية؟
ـ أتشكو من شيء؟
ـ أبدا!
ـ أنت عاشق..
ـ عاشق؟!..
ـ هل تنكر؟
جلست كالمستسلم وقلت:
ـ قلب الأم أدق رادار في العالم!
وضعت الشاي ، وأقبلت تقول بنبرة فرحة:
ـ يعني كلامي صحيح!
ـ لا أدري يا أماه.. قد تكونين على حق ، لعلك تفهمينني أكثر مما أفهم نفسي ، لعل روحي تبوح لك بما تخفيه عني.. لا أدري يا أماه ، لا أدري ، الحيرة تأكلني!.. قد أكون عاشقا ، وقد أكون تائها ، في الحقيقة أنا حائر!..
جلست بقربي ، وقالت:
ـ أخبرني من هي التي تشغلك ، وأنا سأبدد حيرتك..
همست وأنا أستحضر في خيالي طيف أحلام:
ـ فتاة جميلة تقتحم قلبي بقوة.. فتاة رقيقة لها نفس كبيرة وخلق نبيل.. لكأنَّ كل المعاني السامية قد اجتمعت فيها ، وشكلت جوهرها الطاهر البريْ..
ـ ما اسمها؟
ـ أحلام.
ـ اسم جميل.
ـ حقا؟
ـ كيف تعرفت عليها؟
ـ زميلتي في المستشفى.
ـ لا أذكر أنك حدثتني عنها!
قلت وأنا ألقي برأسي على مسند الكنبة:
ـ كنت لا أهتم بها كثيرا ، أو لعلي لم أرد أن أهتم بها من قبل!.. كنت أنظر إليها على أنها مجرد زميلة في العمل ، ألقاها كل يوم كما ألقى كل زملائي في المستشفى ، وأبادلها احتراما باحترام ، لكني انتبهت أخيرا إلى شيء ، شعرت أنها مهتمة بي إلى حد أكثر من عادي..
لاحظت أنها تلاحقني بنظراتها ، تراقب تصرفاتي ، تلتقط كلماتي ، تريد أن تعرف عني كل شيء!!.
حاولت أن أتهرب منها ، لكني لم أفلح ، ثمة شيء يشدني إليها ، وآخر يشدني منها ، ليتني لم أعرفها من قبل!..
عاثت الحيرة في وجه أمي ، فقالت كالشاردة:
ـ أنا لا أفهمك ، لماذا تهرب منها إذا كانت خلوقة وجميلة؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟
ـ ليست هنا المشكلة..
ـ ألا تجد في نفسك ميلا إليها؟
ـ بل أميل إليها بقوة..
ـ حيرتني معك!
ـ قد لا أكون لائقا بها ماديا..
ـ ماديا؟!.. أفصح بوضوح ، وكفاك ألغازا؟؟
رنوت إليها وأنا أبتسم:
ـ كلامي واضح ، ظروف أهلها المادية أفضل من ظروفنا ، ولا أستطيع أن أوفر لها العيش الرغيد الذي تعودت عليه..
ـ لماذا؟ هل هم أغنى منا بكثير؟
ـ أنعد نحن في الأغنياء؟
ـ الحمد لله على كل حال..
ـ لو شعر الناس جميعا بأنهم أغنياء لعاشوا في سعادة!
أردفت أمي فيما يشبه السؤال:
ـ أغنى منا؟
ـ بكثير.
أطرقت متفكرة ، ثم قالت فجأة ، وكأنها وضعت يدها على الحل:
ـ إذا كانت فتاة عاقلة وأصيلة ـ كما تصفها ـ فستصبر على ظروفك ، وتكافح معك حتى تصنعا المستوى اللائق الذي ترتاحان إليه.
ابتسمت كالحالم ، وقلت:
ـ في حديثها اليوم استعداد واضح للصبر والكفاح..
هتفت أمي وقد أضاءت وجهها ابتسامة عذبة:
ـ آه.. فهمت ما الذي أثار تفكيرك بها الليلة ، لا شك أنك قد خضت معها في حديث خاص..
أبدت ملاحظتها بابتسامة ، ثم تناولت فنجان الشاي ، ورحت أرشف منه في صمت ، وأردفت أمي قائلة:
ـ ماذا كان موضوع الحديث؟
ـ حدثتها عنكِ.. عن أبي.. عن ظروفنا وأحوالنا.. أردت أن أضعها في الصورة الصادقة حتى لا تذهب بعيدا في تطلعاتها.. قلت لها بأننا عائلة بسيطة راضية من هذه الحياة بالحد الأدنى من السعادة المادية ، وتعوض عنه بقدر كبير من السعادة النفسية..
قالت أمي وهي ترمقني بنظرة فيها دعابة واختبار:
ـ ماذا قلت لها عني؟
ـ قلت بها بأنك أمهر طباخة في العام..
ـ ألا يعجبك في أمك سوى طبخها؟!..
ـ بل يعجبني فيها كل شيء..
ـ ماذا قلت لها أيضا.
ـ قلت لها بأنك أم مثالية ، وسيدة من الطراز الأول ، تحبين النظافة حتى وجه الوسوسة ، وتصنعين من بيتك جنة صغيرة ، أزهارها من الحب ، وأنهارها من الحنان..
ضحكت أمي في فخر ، وتساءلت وهي تشير إلى نفسها:
ـ أأنا أصنع كل هذا؟
قلت في مكر:
ـ هكذا أوهمتها..
ـ تقصد أني لست هكذا؟
ـ أنت التي لا تريدين أنت تصدقي..
ـ وماذا قالت لك؟
ضحكت فجأة.. ضحكة وأنا أجد نفسي أمام تحقيق نسائي طريف..
سألت أمي وعلى شفتيها ابتسامة حائرة:
ـ ما الذي يضحكك؟..
ـ لا شيء.
ـ بل هناك شيء!..
ـ مجرد خاطر..
ـ حدثني به.
ـ هل سيطول هذا التحقيق؟
ـ لم تقل لي..
ـ ماذا؟
ـ ماذا قالت لك؟..
تنهدت وسرحت بخيالي ، وكأني أغيب في حلم لذيذ ، قلت وأنا أسترجع الأثر العذب الذي أحدثته كلمات أحلام في نفسي:
ـ قالت: إنها تتمنى لو كانت أختي..
هتفت أمي في فرح ، وقد طغت على وجهها ابتسامة عميقة:
ـ البنت تحبك يا صلاح ، فماذا تنتظر؟
ـ ما أدراك؟
ـ كفاك تجاهلا وخبثا ، أنت تعرف ذلك ، لكنك لا تريد أن تعترف..

ودخلت علينا أختي الكبرى في البنات ، فصمتنا ، تراجعت فجأة إلى الخلف ، وتوارت خلف الباب الموارب قليلا ، فلم يعد يبدو منها سوى رأسها المائل إلى الأمام ، قالت وهي تهم بالانسحاب:
ـ فهمت.. اجتماع مغلق!
ثم أغلقت الباب ، فناديتها:
ـ لماذا لا تدخلين؟
ـ ملامحكما تشي بأنكما تتداولان سرا!
ـ قالت أمي ضاحكة:
ـ الأمر ليس سرا ، أخوك صلاح يخطط لاستقبال أخت جديدة لكم في البيت..
هتفت أختي متظاهرة بالذعر ، كمن فوجئ بأمر صاعق:
ـ هل كان أبي متزوجا من امرأة أخرى؟!..
دوت ضحكاتنا في أرجاء الغرفة ، وقالت لي أمي من خلال الضحكات:
ـ أختك هذه لا تفكر غلا في الأمور السيئة..
قالت أختي وهي تجلس على يميني:
سأكون سعيدة لو عرفت من هي أختي الجديدة.
ثم أردفت وهي تقرصني من يدي:د
ـ لابد أنها مغرمة بأخي الكبير..
قبضت على شعرها المتدلي خلف رأسها كذيل الحصان ، ثم قلت وأنا أشده في رفق:
ـ هل بدأت حرب التعليقات السخيفة؟
صاحت وهي تتظاهر بالألم:
ـ اطمئن لن أبوح بالسر.
أطلقت خصلات شعرها الناعمة ، فنهضت وأسرعت خارجة ، وأنا أشيعها بنظرات تفيض بالود ، وأرادت أمي أن تعود بالحديث إلى مجراه ، وما كادت تفعل ، حتى أطبق أخوتي على الغرفة وهم يهتفون "مبروك.. مبروك"..
وأقبل والدي خلفهم والابتسامة تضيء وجهه الطيب ، قال وهو يجلس على كرسي قرب الباب:
ـ أيها المتآمرون!.. أنت وأمك تتآمران على صنع الأخبار السعيدة ، هل صحيح ما تناقلته وكالات الأنباء؟
قلت وأنا أرمق أختي الواشية كالمتوعد:
ـ لا أعلم في بيتنا سوى وكالة واحدة للأنباء ، ثم نهضت إليها لأمسك بها ، لكنها أفلتت مني ولاذت بأبيها وهي تقول:
ـ أنا أحب السبق الصحفي ، خشيت أن تسبقني أمك إلى إعلان قرارك بالزواج..
ضحك أبي وسأل:
ـ من هي صاحبة الحظ السعيد؟
تبادلت مع أمي نظرة باسمة ، ثم أجبت:
ـ الأمر ما زال فكرة فجة لم تنضج بعد..
ـ أليس لهذه الفكرة بطلة معروفة؟
ـ إنها الدكتورة أحلام زميلتي في المستشفى..
ـ ابنة من؟
ـ والدها رجل الأعمال المعروف عبد الغني الذهبي..
وجم أبي ، وتقلصت ملامحه ، قال وهو يضع إبهامه تحت ذقنه ، ويطوي أصابعه فوقها كالقبضة:
ـ هل فكرت في هذا الأمر جيدا يا بني؟
ـ ما زلت أفكر..
ـ هل تريد رأيي؟..
ـ لا غني لي عن رأيك..
قال والدي بنبرة حاسمة:
ـ هذا زواج لن تكتب له الحياة..
هزتني كلمات أبي بشدة ، فانقبض لها قلبي ، همست متوجسا:
ـ لماذا؟
ـ أنت تعرف.
ـ هذا ما كنت أحدث فيه أمي!.
قالت أمي كالمغضبة:
ـ المال ليس كل شيء ، خذوا الأمر ببساطة ، نريد أن نفرح..
التفت إليها والدي كالساخر ، وقال:
ـ أنت دائما هكذا ، كل شيء عندك ممكن.
ردت عليه أمي وهي تشيح بيدها:
ـ أنت لا تعرف شيئا ، البنت تريده ، وهي مستعدة للحياة معه ، والصبر على ظروفه.
ـ يبقى القرار بيد أبيها..
ـ أبوها لن يقف في وجه رغبتها.
ـ أبوها معروف بجشعه ، وسيظن ابننا طامعا بثروته..
تبادل الجميع نظرات ملؤها الخيبة ، وشعروا نحوي بالإشفاق ، نهض والدي وقال وهو يمضي:
ـ الأمر ليس بهذه السهولة ، فكروا به جيدا.
ولم يلبث أخي الأوسط أن خرج خلفه وهو يقول:
ـ سأعود لأكمل الفيلم ظننت أن الأمر قد نضج على نار هادئة!..
قال أخي الأصغر ، وهو يجلس بجانبي:
ـ لو أنك اخترت عروسا قليلة التكاليف ، لتزوجنا معا في آن واحد ، دون أن نرهق الأسرة بالمصاريف..
ضحكت أختي الوسطى ، وقالت له:
ـ أيها الانتهازي.. دائما تبحث عن الفرص السهلة.
قالت الكبرى وقد أحست بأنها تسرعت في إعلان النبأ:
ـ كنت أظن أن أختي المرتقبة سهلة المنال..
ثم أردفت في دعابة:
ـ قلت لك أكثر من مرة دعني أخطب لك صديقتي ميادة ، فلم ترض ، إنها فتاة كالسكر.
وتسللت أختي الصغيرة ذات السبع سنوات إلى حضن أمها ، وسألتها في براءة ، وكأنها لم تفهم شيئا مما دار:
ـ ماما ، ماما.. هل ستشترين لي ثوبا جديدا في عرس أخي؟
رنوت إلى أختي الصغيرة في حنان ، همست وأنا أهم بالنهوض:
ـ كم هو الشبه كبير بيني وبينك يا صغيرتي!..
كلانا نحلم كالأطفال..


۞ الفصل الرابع عشر ۞


لم أصدق ما رأيت!.. كانت مجزرة حقيقية ضحاياها جميعا من الأطفال..
هرعنا إلى الجرحى الصغار نرمم أجسادهم الممزقة.. نتشبث بأرواحهم البريئة حتى لا تفلت منا ، وتغادرنا إلى العالم الآخر ، تسربت روح الطفل لأول من بين أيدينا بسرعة ، ومضت إلى خالقها تشكو له عالمنا المجنون ، بكت أحلام وهي تسبل جفني الطفل الشهيد فوق عينيه اللتين جال فيهما الرعب والذعر ، حضرت مجموعة أخرى من الأطباء لتساهم في إنقاذ هذه الكائنات المسكينة ، واجتمع الأهالي في الخارج ينوحون ويولولون ، وتعالى نحيب الأمهات وهن يتدافعن أمام غرفة العمليات.. يتسقطن الأخبار حول أطفالهن الذين ذهبوا ضحية الطيش والسرعة المجنونة..
ووصل الدكتور مأمون مدير المستشفى قادما من سفر بعيد ، فانضم إلينا على عجل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
اةقف قلب طفل آخر عن الخفقان ، وانسلت روحه من بين أيدينا ونخن ننظر في مرارة وعجز ، لم تحتمل أحلام هذه المناظر المرهقة ، فسقطت مغشيا عليها ، وهي الطبيبة التي ألفت أجواء غرف العمليات ، فالموقف كان مؤثرا صعب الاحتمال ، ولم تلبث أن عادت إلى وعيها بعد أن صفعتها إحدى الممرضات ، فاستجمعت قواها ، وغسلت وجهها ، ثم انضمت إلينا ثانية ، لتتابع أداء واجبها في إنقاذ الجرحى من الأطفال..
ثمة روح ثالثة تتملص من بين أيدينا ، تريد أن تهاجر ، تريد أن تغادر هذا العالم الضيق الذي لم يتسع لأفراحها ، استنفرنا لمنعها من الرحيل ، استخدمنا الصدمات الكهربائية ، ومنحناها قبلة الحياة ، لكنها رفضت أن تبقى ، ومضت في عناد ، تلعن عالمنا الذي لم يعد يحترم أرواح الأطفال..
وتراكم التعب والإرهاق في أوصالنا ، وتفاقم الحزن في داخلنا حتى طفح من عيوننا وملامحنا ، وقضينا يوما ضاريا ، ونحن نصارع الموت الذي حاصر الأجسام الصغيرة ، وراح ينهشها ويفترسها جسدا بعد آخر..
وانتصف الليل ، فهدأت المعركة قليلا ، لكنها لم تحسم بعد ، فما زالت بعض الإصابات بالغة الخطورة ، وتحتاج إلى حراسة شديدة..
قرر الدكتور مأمون أن يوزعنا إلى فئتين ، فئة ترابط حول الأطفال الجرحى ، وأخرى تخلد للنوم والراحة ، لأننا قمنا بالعبء الأكبر في غرفة العمليات..
قال هاني:
ـ دعونا نخرج من الباب الخلفي ، فأنا لا أطيق رؤية وجوه الأهالي المنكوبين..
وهمست أحلام بعد أن مضينا خطوات:
ـ لا أصدق ، أرأيتما الذعر في عيون الأطفال؟ أي مجرم هذا الذي كان وراء الحادث؟!..
هتفت في غيظ:
ـ مراهق في العشرين ، فعل فعلته النكراء ، ثم هرب..!
تساءلت أحلام:
ـ كيف استطاع أن يهرب ، وهو يرى الأطفال أمامه يتحولن إلى كومة من الأشلاء؟ ألم تتحرك فيه ذرة من الشهامة ، فينزل ويساهم في إنقاذ الضحايا؟
ومضينا في الممر الطويل نفرغ شحنات الحزن والغضب ، ونتبادل انطباعاتنا الأليمة ، ونحن نسعف الجرحى من الأطفال ، وسمت صوتا ينادينا من الخلف..
صوت أذكر أني سمعته من قبل!.. والتفتنا إلى صاحب الصوت..
قال هاني:
ـ هذا هو الأستاذ سعيد.. لقد جاء ليغطي الحادث بنفسه.
صافحنا الأستاذ سعيد الناشف بحرارة ، وقال في لهفة وقلق:
ـ طمئنوني.. ما هي آخر الأخبار؟..
قلت له:
ـ ثلاثة قتلى ، وإصابتان خطيرتان ، والأطفال العشرة الباقون تتراوح إصاباتهم بين الكسور والرضوض ، لكنهم جميعا يعانون من صدمة نفسية فظيعة أحدثها الرعب الذي اندلع في قلوبهم الغضة ، وهم يواجهون الموت في أبشع صوره..
قال الأستاذ سعيد:
ـ سأفرد لهذا الحادث البشع عددا خاصا يهز الرأي العام ، خبروني بربكم.. كيف حدث هذا؟
قال هاني:
ـ كل ما علمناه أن الأطفال كانوا عائدين إلى بيوتهم في باص المدرسة ، كان الباص يسير ضمن السرعة القانونية ، وفجأة خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي ، واستقرت وسط الباص كالقذيفة ، فانقلب الباص بمن فيه ، وتطايرت أجساد بعضهم من النوافذ ، وارتطم الآخرون بجدران الباص المعدنية ، فأصيبوا برضوض وكسور مختلفة ، واخترق الزجاج المحطم أجساد عدد منهم..
همست وأنا في ذروة الألم:
ـ لقد كانت كجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد..
قال الأستاذ سعيد وهو يمضي معنا متثاقلا:
ـ حوادث الطرق في بلادنا تبتلع من الضحايا أكثر مما تبتلع الكوارث والحروب..
علقت أحلام بنبرة قاسية:
ـ لو ذهب هؤلاء الأطفال ضحية حرب أو زلزال لكان الأمر أهون ، لكن أن نقتل أطفالنا بأيدينا ، بطيشنا وغرورنا ، فهذا قمة الجنون والإجرام!..
لفتت لهجة أحلام لمنفعلة انتباه الأستاذ سعيد ، فقال وهو يرمقها باهتمام:
ـ أنا أعرف الدكتور هاني ، والدكتور صلاح ، لكني لم أتشرف بمعرفتك بعد..
بادرت ، فعرفت كل منهما على الآخر ، فلاحظت عليهما تغيرا ووجوما مثيرا ، تساءلت في حيرة:
ـ أتعرفان بعضكما من قبل؟
همس الأستاذ سعيد وهو يبتسم في غموض:
ـ إذا كانت الدكتورة أحلام ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الغني الذهبي ، فهي تعرفني بلا شك!..
سألته أحلام بنبرة حائرة:
ـ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذهبي؟
أجاب كالواثق:
ـ كنت أعرف أن له ابنة وحيدة تدرس الطب.
قلت في محاولة لفض الغموض:
ـ أنت تعرف أباها إذن!
هز الأستاذ سعيد رأسه مؤكدا ، ثم همس وهو يسد إلى أحلام نظرة غامضة:
ـ صديق قديم..
أحرجت نظرة الأستاذ سعيد أحلام ، فرمشت في ضيق ، واستأذنتنا في الانسحاب متعللة بالتعب ، وانسحب هاني خلفها مبديا العذر نفسه ، سألني الأستاذ سعيد ، وهو يشيع أحلام بنظرة شاردة:
ـ كيف تجدها؟
ـ من؟
ـ الدكتورة أحلام..
ـ إنها فتاة طيبة ومهذبة ، وذات شخصية جادة..
رفع حاجبية دهشة ، وقال:
ـ أمتأكد أنت؟
ـ جدا..
ـ شوكة خلفت وردة!..
ـ ماذا تقصد؟
قال متهربا من الإجابة:
ـ دعك من قصدي ، وأخبري.. ما هي أخبار طفلتك اللقيطة؟
ـ النتائج سلبية..
ـ كما توقعت..
ـ لم تقل لي..
ـ ماذا؟..
ـ ما رأيك بوالد أحلام؟..
ابتسم في دهاء ، وسأل:
ـ هل تهمك كثيرا.
ـ مجرد فضول..
ـ لماذا لا تعمل معي؟
ـ أين؟
ـ في الصحافة طبعا!
ابتسمت رغما عني..
ـ أنا؟
ـ سأجعل منك صحفيا مشهورا.
ـ ولكن..
ـ لست أول من يقدم على هذه المغامرة.
ـ لماذا أقدم عليها؟
ـ لأنك تملك أهم مقومات الصحفي الناجح: فضول المحقق ، وحماس المؤمن..
قلت وأنا أنوء تحت أثقال الهم والنعس والإرهاق:
ـ أستاذ سعيد.. كنت أتمنى لو كان حديثا في غير هذه المناسبة ، لكني مضطر للانسحاب الآن ، فأمامي غدا عمل طويل..
ربت الأستاذ سعيد على كتفي وقال:
ـ فكر بالأمر ، تصبح على خير..
عندما وضعت رأسي على الوسادة ، تذكرت شيئا.. لقد استطاع الأستاذ سعيد بدهائه أن يتهرب من سؤالي عن رأيه بوالد أحلام!..
ماذا يعرف عنه يا ترى؟.

۞ الفصل الخامس عشر ۞

ـ "محكمة.."
ضج الكون فجأة بهذه الكلمة ، وارتج لها حتى كاد يميد ، وانتشر دويها القاصف كالرعد في الآفاق المترامية ، فامتدت أصداؤها إلى ما لا نهاية ، حتى خفتت وتلاشت ، وحل مكانها صمت رهيب مثقل بالخوف والقلق والرعب..
ـ "هل هي القيامة المنتظرة قد قامت في غفلة من البشر؟.."
والتفت حولي كالمأخوذ! هذه دنيا غير الدنيا!.. عالم عجيب كل ما فيه غريب غير مألوف. الغيوم تحيط بالمكان كالجبال ، وقد حجبت خلفها كل معالم الكون المألوفة!.. والسماء فوقنا ليست هي السماء.. إنها قبة هائلة من الضباب الكثيف المفعم بالغموض.. والأرض تحتنا!. أين الأرض؟.. لكأني أقف فوق فراغ ، مدفوعا إلى الأعلى بقوة مجهولة كدافعة أرخميدس!..
وشعرت بجسمي يـرجح كريشة معلقة في الهواء ، وتساءلت في نفسي وأنا أرقب جسدي وهو يترنح فوق الفراغ بلا وزن : "أأنا في رحلة فضائية أجوب أعماق الكون السحيقة؟!!"..
وانتبهت فجأة إلى أني لست وحدي! ها هي أحلام تقف بجانبي ، وهي تتلفت حولها مبهورة.. وذاك هو هاني يقف قريبا مني وقد أغمض عينيه في خشوع ، ورفع كفيه إلى السماء في ضراعة ، وراح يسأل الله العفو والمغفرة ، وذلك هو الأستاذ سعيد وقد شخص ببصره الحائر إلى قمم الغيوم الشاهقة التي أحاطت بالمكان كأسوار سجن عظيم..
والناس.. الناس حولنا قد ارتصوا في كتلة واحدة ، وشخصوا بأبصارهم في كل اتجاه ، يرمقون المكان بعيون قلقة وقلب واجف..
ـ "محكمة!"..
وعادت الصرخة الهائلة تدوي في أرجاء الكون ، فخفق الهلع في القلوب وجمدت العيون في المحاجر ، وراحت تحملق في ذعر ، وكأنها ترقب مجهولا مخيفا قد فغر فاه ليبتلعها ويغيبها في جوفه العظيم.
وهتف هاتف : "انظروا هناك!.." فاتجهت الأبصار الخائفة المترقبة إلى كائنات بيضاء تحلق في الفضاء ، وقد سدت الأفق بأسرابها الكثيفة ، وجعلت تقترب في هدوء ، ولم تلبث هوية هذه الكائنات الغريبة أن انكشفت ، فسرت في جموع الناس همهمة غامضة ، ولغط كبير ، عندما تبين لهم أن هذه المخلوقات الطائرة ، ما هي إلا أسراب هائلة من الأطفال المجنحين..
وحط الأطفال المجنحون فوق ذرى الغيوم المحيطة بنا ، وضربوا حولنا حصارا محكما ، بينما حلقت فوقنا مجموعة منهم ، يتقدمها طفل يضع فوق رأسه تاجا أحمر بلون الدم.. طفل أذكر أني رأيته من قبل!.. آه.. إنه أحد الأطفال الذين ذهبوا ضحية لحادث باص الأطفال!..
التفت إلى أحلام وقلت وأنا أشير إلى الطفل المتوج:
ـ هل تعرفين هذا الطفل ياأحلام؟..
قالت أحلام والدموع تغرق عينيها الوادعتين:
ـ وكيف أنساه يا صلاح.. لقد أسدلت جفنيه بيدي هاتين!..
سألتها وأنا غارق في الحيرة والذهول:
ـ هل قامت القيامة فعلا ، وبعث الناس من جيد؟
همست أحلام بنبرة واهنة:
ـ لقد قامت في غمضة عين!..
وقال هاني وهو يهز رأسه في حسرة وندم:
ـ ليتني قضيت العمر فيما يفيد.. إذا لم يغفر لنا الله ذنوبنا ، ويشملنا برحمته ، فسنواجه نهاية فظيعة..
ثم أردف وهو يرتعش:
ـ سوف تشوى أجسادنا في نار جهنم يا جماعة.. ألم تسمعوا بالنار؟..
حك الأستاذ سعيد ذقنه متفكرا ، وقد استفز الموقف الغامض كل حواسه ، ثم قال:
ـ لا أظن أنها القيامة!.. فللقيامة أشراط ومقدمات لم تتحقق بعد.. أعتقد أنها حرب النجوم الملعونة قد دمرت الكون ، وحشرت ما تبقى من البشر في هذه المكان..
قلت له:
ـ وهؤلاء الأطفال المجنحون الذين يحلقون فوقنا كالعصافير ، من أين انبثقوا. وكيف نبتت لهم هذه الأجنحة البيضاء القوية التي يطيرون بها؟
وعقبت أحلام:
ـ عذرا يا أستاذ سعيد ، أنا لا أوافقك الرأي ، إنها القيامة المرتقبة ، وقد حان موعدها ، والدليل على قيامها هؤلاء الأطفال الذين بعثوا من جيد ، وعادت إليهم الروح ، بعد أن ماتوا بين أيدينا في غرفة العمليات!..
قال الأستاذ سعيد ساخرا:
ـ إذا كانت القيامة قد قامت فعلا ، فسوف يواجه أبوك مصيرا أسوادا لا يحسد عليه.
صاحت به أحلام غامضة:
ـ انشغل بمصيرك أيها العجوز ، وكف عن التجريح بوالدي ، تكفيك إساءتك البالغة له في الحياة الدنيا!.
وعاد الصوت الهائل يهدر من جديد..
ـ "محكمة!"..
عرفنا أخيرا مصدر الصوت ، إنه أحد الأطفال المجنحين ، ولكن!.. ما بال صوته الطفولي هادر مجلجل إلى هذا الحد؟.. هل يساعد الفراغ الكوني على تضخيم الأصوات؟!.. وهذه الكلمة التي رددها للمرة الثالثة ، ماذا تعني؟.. محكمة؟!.. هل نحن متهمون تجب محاكمتنا؟ أم أنا متفرجون حشرنا القاضي في هذا الكون الغريب ، لنشاهد أحداث محاكمة غامضة ستجري؟.. ورحنا نرقب الموقف في دهشة وفضول مشفوع بالهواجس والمخاوف..
اقتلعت مجموعة من الأطفال المجنحين قطعة من الغيوم ، وطارت بها نحو الطفل المتوج ، فصفق بجناحيه ، وحط فوقها بهدوء ، ووقف يرمقنا من علٍ بنظرات صارمة مستطلعة فاحصة ، وكأنه قائد منتصر يستعرض أسراه!..
وهمس هاني كمن اكتشف شيئا مثيرا:
ـ الآن فهمت كل شيء!.. إنها مسرحية أطفال!.. نعم مسرحية أطفال!..
ثم وهو ينظر حوله كمن يبحث عن شيء:
ـ لكني لا أرى المخرج!.. أين هو حتى أشكره على هذه المسرحية الرائعة التي تأخذ بالألباب؟
لوى الأستاذ سعيد شفتيه في حيرة وقال:
ـ إذا كان ما يجري أمامنا مسرحية أطفال ، فهذا يعني أن مسرح الطفل في بلادنا قد خرج من أزمته ، وتطور تطورا مدهشا يستحق التقدير ، سأفرد عددا خاصا عن هذا الموضوع..
قلت وقد أوحى لي هذا التفسير بفكرة مثيرة:
ـ لا.. لا.. هذه ليست مسرحية أطفال ، إنها فلم أطفال عربي يضاهي بمستواه أفلام الأطفال الأمريكية والغربية ، هذا أول فلم عربي يبرع في توظيف الخدع السنمائية ، وينجح في إطلاق خيال الأطفال..
قال الأستاذ سعيد وهو يشير إليَّ بسبابته في شك:
ـ لست معك في هذا يا صديقي.. لا يمكن أن يكون هذا فلما عربيا للأطفال ، ولا حتى تمثيلية تلفزيونية.. لقد استأثر الكبار في بلادنا بهاتين الوسيلتين الخطيرتين ، ووظفوهما لتسليتهم وإرضاء أنانيتهم ، وتركوا أطفالهم فريسة لأفلام الأطفال المستوردة ، ومسلسلات الكرتون التجارية التي تجذب الأطفال بالإثارة الفارغة ، والعنف المريض..
هتفت أحلام في احتجاج غاضب:
ـ لقد ذهبتم بعيدا يا سادة.. المسرحيات والأفلام لا يؤديها أطفال قتلى أو أشباح!..
ثم التفتت إليَّ وقالت:
ـ وأنت يا صلاح.. تأمل وجه هذا الطفل المتوج الذي يقف فوق غيمته ، وبرمقنا بعيني صقر ، ألم تقل لي بأنك قد عرفته؟ أم أن ما يجري قد أفقدك قدرتك على التركيز؟!..
دلكت جبيني بأنامل أصابعي المشدودة ، ورحت أتأمل وجه الطفل وأنا أعتصر ذاكرتي بقوة..
قلت لأحلام بنبرة شك:
ـ أأنا قلت بأني أعرف هذا الطفل؟!.. لا أذكر أني قلت شيئا كهذا!..
شهقت أحلام ، وفغرت فمها مشدوهة ، وهي تنظر إليَّ نظرة غامضة قرأت فيها ريبة واتهاما ، وأرادت أن تقول شيئا ، لكن صوتا مباغتا اقتحم علينا حوارنا ، فالتفتنا مستطلعين..
ـ أتنساني يهذه السرعة يا دكتور؟ ألا تذكر هذا الوجه عندما كان مضرجا بدمه؟ ويلكم أيها الكبار من أنفسكم.. لقد أدمنتم على النسيان حتى أمسى خبزكم ، تريدون لو حتى أسماءكم..
سرت في جسدي رعشة ، وأيقظت نبراته العاتبة حزنا مكبوتا داخلي فبكيت ، وكان هاني يراقب ما يدور ، فقال بعد أن سمع الطفل يذكرنا بنفسه:
ـ إنها القيامة إذن ، ولا شيء غير القيامة ، ليتني عبدت الله حق العبادة!..
وجاءنا الصوت عميق من الخلف ، فاستقر في أسماعنا كالقذيفة:
ـ هكذا أنتم أيها البشر ، لا تذكرون الله إلا في الملمات ، أين كان الله في حياتكم عندما كنتم قادرين على طاعته؟.. انتظرو ا مصيركم أيها الناس ، فاليوم تنصب موازين الحق ، ويلقى كل فرد منكم جزاءه العادل..
هتف هاني وهو يصيخ السمع:
ـ أسمعتم ، هذا هو صوت جبريل!.. جبريل الذي حمل رسالات ربه إلى الأرض ، فرفضناها ، ونسيناها..
قال الأستاذ سعيد وهو يفرك يديه فرحا:
ـ لقد انتظرت هذا اليوم طويلا لأرى الظالمين وهم عراة من كل قوة..
ثم تلفت حوله وتساءل في حيرة:
ـ ولكن.. أين فرعون ، وكسرى , وقيصر؟.. أين بلفور وبن غوريون وهتلر؟.. أين ستالين وجونسون وسوموزا؟.. أين؟..
ولم يكد يكمل حتى عاد الصوت المجلجل الهادر يطرق الأسماع ويزلزل القلوب:
ـ "محكمة!"..
ساد صمت وسكون ، وتعلقت العيون بالطفل المتوج ، وتلهفت الأسماع لمعرفة ما سيصدر عنه ، لكنه لم ينبس ، وراح يسدد إلينا نظرات قاسية وكأننا مجرمو حرب، وطال صمته ، فسرى الرعب في النفوس ، وأيقنا بالهلاك ، خرج الطفل المتوج عن صمته أخيرا وقال:
ـ باسم الأطفال المضطهدين والمهملين والمقتولين ظلما وعدوانا ، باسم الأطفال الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة ، أفتتح اليوم محكمة الأطفال الكونية ، لينال الكبار جزاءهم العادل على ما اقترفوه في حق الصغار من جرائم ، وأخطاء..
أفلتت من هاني ضحكة هستيرية عالية ، ثم قال:
ـ لا تقنعوني بعد الآن ، هذه ليست القيامة ، إنها مسرحية أطفال ، مسرحية رائعة من أنجح المسرحيات التي شاهدتا في حياتي..
ثم أخذ يصفق ويهتف في حبور:
ـ (برافو)..(برافو)..
قلت لهاني ، وقد أرهقتني ثرثرته:
ـ أرجوك يا هاني ، اصمت ودعنا نفهم ما يجري..
أدخل هاني سبابته في زاوية فمه ، وأطلق صفيرا مزعجا ظل صداه يتردد مدة ، ثم قال وهو يعود إلى التصفيق:
ـ ارحمني من ملاحظاتك السخيفة الآن ، ودعني أعبر عن إعجابي بهذه الرائعة الفنية التي تفوق كل ما أبدعه الكتاب من مسرحيات وقصص وروايات..
طار الطفل إلى هاني ، وقال له بلهجة متوعدة ، وهو يمسك يناصيته:
ـ إذا لم تلتزم الهدوء أيها الكبير المشاغب ، فسوف أحكم عليك بالحرمان من الإنجاب مدى الحياة..
بهت هاني وانتابه الهلع ، فربط التهديد لسانه ولاذ بالصمت..
عاد الطفل ذو التاج الأحمر إلى مكانه ، ونادى في أصحابه:
ـ فلتتقدم هيئة المستشارين..
تقدمت مجموعة من الأطفال المجنحين ، ووقفت فوق الغيمة التي يقف عليها الطفل المتوج..
قال الطفل المتوج ، وهو يشير إلى الأطفال الذين انضموا إليه:
ـ هؤلاء الأطفال هم القضاة الذي سيساعدوني في إصدار الأحكام العادلة ، وقد اخترتهم من بين آخر الأطفال الضحايا الذين قتلتهم الكبار على الأرض..
الطفل الأول مات جوعا في الصوما..
والثاني قتل بقذيفة حمقاء ألقيت عليه أثناء حرب من حروب الأشقاء الأعداء..
والثالث مات ضحية لجهل أم حرمت ابنها من التطعيم ضد الأمراض السارية..
والرابع قتله طبيب محترف في رحم أمه تنفيذا لرغبة الأم التي قررت إجهاض جنينها ، وحرمانه من حقه في الحياة..
أما أنا ، فقد كنت أحد ضحايا مجزرة دامية كان وراءها شاب أرعن قاد سيارته دون أدنى شعور بالمسؤولية ، فصدم بها باص المدرسة الذي كنت أستقله أنا وأصحابي ، وحولنا إلى أشلاء..
همست أحلام:
ـ ألم أقل لكم؟ إنه أحد ضحايا باص الأطفال..
قال هاني محذرا:
ـ اصمتي يا أحلام ، فقد يعاقبك قاضي الأطفال بعدم الإنجاب..
انتبه قاضي الأطفال إلى هاني وهو يخطب أحلام ، فتعكرت ملامحه بحمرة الغضب..
هتف وهو بشير إلى هاني بسبابته:
ـ أنت.. أيها المشاغب الكبير ،لقد أنذرتك ، ووجب عليك العقاب..
ركع هاني على ركبتيه فرقا وصاح متوسلا في ضراعة:
ـ الرحمة أيها القاضي.. لم أكن أقصد الشغب..
أشار القاضي الصغير لأتباعه من الأطفال المجنحين بحركة من رأسه ، ففهمنا للتو بأنه قد أصدر حكمه الصارم ، وسرعان ما انقضت الكائنات المجنحة على هاني ، وقبضت عليه ، وكادت تطير به ، فتشبثنا به ، ورحنا بشده إلينا ، ونحن نرجو القاضي الصغير أن يرحمه ويعفو عنه ، وصاحت أحلام وهي تبكي بمرارة:
ـ أنا السبب أيها القاضي.. أنا التي بدأته بالكلام.. عاقبني أنا إذا شئت..
وأردفت متوسلا:
ـ أرجوك أيها القاضي.. امنحه الفرصة الأخيرة..
أشاح القاضي المجنح بوجهه عنا ، وقال:
ـ أنتم لا تمنحون الأطفال فرصتهم ، وليس من العدل أن تنالوا أية فرصة..
قلت للقاضي الصغير في محاولة أخيرة لإثنائه عن عزمه:
ـ لكن هاني كان من الأطباء الذين شاركوا في إنقاذ أصدقائك من الجرحى ، وقد بذل في سبيل إنقاذهم كل مستطاع..
التفت القاضي الصغير إليَّ ، ورماني بنظرات قاسية زرعت قلبي بالخوف ، ثم قال بلهجة ثائرة:
ـ اعلموا أيها الكبار أن الظلم الذي يوقعه بعضكم بالأطفال ، لن يعود بالنتائج الوخيمة على من ظلمهم فقط ، بل إن نتائجة المدمرة ستطال البقية الطبية منكم ، وستدمر ثورة الأطفال حياتكم ، وتحولها إلى شقاء..
ثم أردف وهو يشيح بوجهه عني ثانية:
ـ عندما تشوهون أرواحنا الصغيرة ، بالتربية الخاطئة والممارسات الرعناء ، فيجب أن تنتظروا من كل شيء..
ثم صمت القاضي الصغير ، وهز رأسه بإيماءة صارمة ، فانتزع أتباعه هاني منا ، وطاروا به بعيدا..
وجعلت أصرخ وأنادي ملتاعا:
ـ هاني.. هاني..

ولم ألبث أن شعرت بيد هاني وهي تهزني برفق ، فاستيقظت من حلمي العصيب ، ورحت أفرك عيني ، وأنا ألهث ، ثم نظرت حولي في قلق ، وكأني أطمئن على العالم قبل أن ينهار!..
قال هاني وهو يبتسم في دهشة:
ـ هل كان حلما جميلا؟
تنفست الصعداء ، وقلت:
ـ بل كان كابوسا مزعجا!..
صفعني هاني بالوسادة ، وقال:
ـ ظننتك تناديني في الحلم من أجل شيء بهيج!..
استرخيت على السرير ورحت أسترجع الحلم الذي رأيت ، فضحكت بعد أن تذكرت كل ما كان ، وقلت لهاني وأنا غارق في الضحكات:
ـ تصور يا هاني.. أنت محكوم عليك بعدم الإنجاب!..
ـ أنا؟ من الذي أصدر الحكم؟..
رئيس محكمة الثورة!..
ـ اقترب هاني مني ، ووضع يده على جبهتي ، ثم قال:
ـ حرارتك طبيعية!.. عن أي ثورة تتحدث؟!..
أجبته وأنا أوغل في الضحك:
ـ ثورة الأطفال!..
ـ ثورة الأطفال؟!..
ـ ألا ثصدق؟..
ـ هذه أول مرة أراك تضحك في أوقات الجد!..
لسعتني ملاحظة هاني ، تذكرت فجأة ضحايا باص المدرسة ، فغارت الضحكات من وجهي، وحلّ مكانها همّ وقلق على مصير البقية الباقية من الأطفال..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة