ابحث في الويب



رواية


البحث عن امرأة مفقودة


الفصل 4-6  



د.عماد زكي





حقوق النشر الإلكتروني محفوظة للمؤلف

هذه الرواية طبعت بمبادرة من القراء الأعزاء، وهم يعتذرون إن شابها بعض الأخطاء



۞ الفصل الرابع ۞


ـ تفضلي..
ـ يدي يا دكتور..
ـ ما بالها؟..
ـ مجروحة..
ـ أرني ..
بسطت المرأة راحة كفها الأيسر أمامي ، فوجدتها قد أصيبت بجرح بسيط ، سألتها في حيرة:
ـ هل جئت من أجل هذا الجرح؟!..
أجابت في تلعثم ، وعيناها تجوبان أرجاء المكان:
ـ أجل ، لقد خشيت أن يؤثر النزيف على صحتي ، فأنا مريضة..
ـ مريضة؟!.. بماذا؟!
ـ أقصد صحتي سيئة..
تأملتها جيدا ، كانت امرأة في العشرينات من العمر ، وصحتها الظاهرة جيدة ، بل إن جسمها يميل إلى الامتلاء ، فأي سوء في الصحة تقصد؟
وخطر لي أنها مريضة نفسية مصابة بالوهم والوسوسة ، وقد هرعت إلى المستشفى مذعورة ، عندما رأت بضع قطرات من الدم تسيل من يدها الجريحة ، وخطر استمرار النزيف ، فجاءت إلى المستشفى تنشد المساعدة..
سألتها وأنا أبلل قطعة من القطن المعقم بالكحول:
ـ هل سبق أن أصبت بمرض دموي.
ـ لا.
ـ مرض نفسي؟
ـ أبدا.
ـ يبدو أنك كثيرة الوهم!..
لم تكترث بملاحظتي ، تركت يدها في يدي لأعالج جرحها ، وراحت ترنو إلى الطفلة اللقيطة بنظرات لاح فيها الإشفاق ، لم أحفل بنظراتها ، فالذي يمارس مهنة الطب ، يستطيع أن يدرك معنى الفضول الذي يطل من عيون الناس عندما يزورون عيادات الطوارئ..
ولفتت نظري ملاحظة طريفة!.. سألتها وأنا أتأمل الجرح الذي يمتد عبر راحة كفها الأيسر:
ـ بأي شيء جرحت يدك.
كانت ذاهلة عني غارقة في الشرود ، ونظراتها مازالت معلقة بالطفلة..
أعدت عليها السؤال فانتبهت وأجابت في ارتباك واضح:
ـ آه ، جرحتها ... جرحتها بسكين..
تعجبت لهذه السكين الكليلة التي يمكن أن تحدث مثل هذا الجرح ، فالمعروف أن الأدوات الحادة مثل الشفرات والسكاكين تحدث جرحا مستقيما منتظم الحواف ، أما جرح يدها فكان مشرشرا ، وكأنه قد أحدث بأداة كليلة ، كرأس مسمار أو...
سألتها ثانية وقد استولى عليَّ الفضول:
ـ ماذا كنت تعملين في هذا الوقت المبكر.
أجابت بلهجة أكثر تماسكا:
ـ كنت أعمل في المطبخ..
ـ في المطبخ؟!..
ـ أجل.
ـ هل أنت عاملة في فندق؟..
ـ بل ربة منزل.
تساءلت في سري عن السبب الذي يدعوها للعمل في المطبخ بعيد الفجر بقليل!.. خمنت أنها زوجة عامل من الذين ينطلقون إلى أعمالهم مبكرين..
في الحقيقة لولا مظهرها القلق ، لما تماديت في الأسئلة ، ذلك القلق أثار فضولي ، ليس القلق وحده ، كانت حزينة أيضا..
وفاجأتني بسؤال أثار انتباهي ، قالت:بينما كنت أحكم ربط الضماد حول يدهشة:
ـ ما هو مرض تلك الطفة؟..
تساءلت في دهشة:
ـ طفلة؟! ما أدراك أنها طفلة!..
بوغتت بالسؤال ، ابتسمت وقالت:
ـ مجرد تعبير عفوي ، هل هي طفلة حقا؟!..
ـ هي طفلة فهلا ، لكن ما الذي دفعك للاعتقاد بأنها طفلة؟!..
ـ قلت لك لم أقصد ، كل ما في الأمر أن النساء عادة يميلون لتأنيث الأشياء ، مثلما يميل الرجال لتذكيرها..
ـ هل أنت جامعية؟..
كنت طالبة في كلية الآداب ، لكني لم أتم تعليمي..
قلت لها بعد أن انتهيت من تضميد جرحها:
ـ سأكتب لك بعض المضادات الحيوية لوقاية الجرح من الالتهاب.
قالت وكأنها تريد أن تتخلص مني:
ـ لا. لا داعي ، أنا بخير الآن..
نظرت إليها في دهشة..
ـ لا داعي!..
وانتبهت لنفسها:
ـ اكتب ما تراه مناسبا.
وانتظرتني ريثما كتبت الوصفة ، ثم تناولتها ، ومضت مسرعة!..





 ۞ الفصل الخامس ۞




انتهت الدكتورة أحلام من معالجة الطفلة ، وكتبت تقريرا مفصلا حول حالتها الصحية ، أبلغت الشرطي الذي حمَّلته التقرير ، بأن الطفلة بحاجة إلى بعض الرعاية قبل تحويلها إلى الملجأ..
كانت آثار الحزن والإرهاق بادية عليها ، جلست كالمنهكة ، وأطرقت في كآبة ، ثم راحت في تأمل عميق..
قلت لها:
ـ بإمكانك أن ترتاحي إذا أردتِ..
همست بنبرة واهنة:
ـ اذهب أنت ، سأبقى هنا حتى نهاية الدوام.
ـ كيف حال الطفلة؟
ـ تشكو من بعض المغص ، البرد أثر فيها..
ـ الجاني ترك مع الطفلة مبلغا من المال!..
ـ كيف عرفت؟
ـ سألت الشرطي.
ـ ابتسمت أحلام ابتسامة ساخرة ، ثم قالت:
ـ ما زال بعض الأغبياء يظنون أن المال يمكن أن يكون بديلا للحنان..
قلت وأنا أمضي:
ـ إذا احتجتِ لشيء ، فأنا فوق.


كان النوم قد طار من أجفاني ، لكني شعرت بحاجة ماسة لأن أكون وحدي ، توجهت إلى غرفتي فوجدت هاني ما زال نائما ، ألقيت نفسي على السرير ، ورحت أفكر في هذه الطفلة المسكينة التي كانت والشقاء توأمين في رحم واحد..
وانتبهت لهاني وهو يتقلب على فراشه ، ثم ما لبث أن أفاق وقال وهو يفرك عينيه بظاهر سبابتيه:
ـ نمت كثيرا؟..
ـ اسأل نفسك..
ـ هل من جديد؟
ـ طفلة لقيطة.
سأل وقد توقفت أصابعه عن العبث بشعره:
ـ ماذا؟..
ـ طفلة لقيطة وجدت عند الفجر ملقاة في حديقة جامع الإخلاص القريب من هنا..
قال وهو يعاود الاستلقاء:
ـ يبدو أن أمها غير مدربة!..
ـ مدربة؟!..
ـ أقصد أنها لا تتقن فنون منع الحمل..
ـ ما الذي أودى بنا إلى هذا الانحدار؟..
ـ ما أدراني.. أنا لا أفكر في الأسباب مثلك ، أكتفي بالسماع..
خالي محام ، وأنا مغرم بحكاياته البوليسية..
قلت وقد غاظني البرود الذي استقبل به هاني الخبر:
ـ هل يكفي أن تستمتع بما يحدث؟..
ـ ماذا نفعل؟
ـ هذا يحيرني!
قال وهو ينفض عنه الغطاء:
ـ يبدو عليك التعب ، خذ قسطا من النوم..
ـ لا أشعر بالنعاس..
ـ لماذا أنت مهموم هكذا؟..
ـ منظر الطفلة اللقيطة يعذبني..
ـ تبدو روما نسيا هذا الصباح!..
ـ أنت لم ترها يا هاني..
ـ ولا أريد أن أراها ، هذه الحوادث تبعث في نفسي القرف..
ـ ما يحيرني أن عمر الطفلة يبلغ بضعة شهور ، يزيد عن أربعة شهور..
ـ أربعة شهور؟! الحكاية فيها (إنَّ)!..
ـ أريد أن أعرف هذا (الإنَّ)؟..
قال هاني وهو يبتسم:
ـ فضولك الجارف يدهشني ، دائما تريد أن تعرف كل شيء..
ـ وأنت؟.. ألا تريد أن تعرف؟!..
ـ أنا يا صديقي أحب المعلومات الجاهزة ، قصة في رواية ، تحقيق في صحيفة ، دراسة في مجلة ، أمي تقدم لي الفواكه دائما مقشرة ، والجامعة لم تكلفنا يوما بإجراء بحث أو دراسة ، دائما تطالبنا بحفظ المعلومات..
لا أدري من تسربت إليك لوثة البحث والتنقيب؟ ، لعلك من أحفاد الرازي أو ابن سينا!..
ضحكت رغما عني ، كلام هاني فيه ظرافة وعمق ، وسمعته يقول:
ـ حاول أن تنسى يا صديقي ، فلا شيء في هذه الحياة يهم..
أجبته وأنا ساهم:
ـ لا أصدق أنك تعني ما تقول!.



 ۞ الفصل السادس ۞




جاءت الساعة الثامنة صباحا ، وانتهى وقت نوبتنا ، فارتديت ملابسي استعداد لمغادرة المستشفى بصحبة هاني.
قال هاني مداعبا:
ـ أما زالت سيارتك في التصليح؟
ـ لم تبرأ من أمراضها بعد..
ـ سأحملك معي لليوم الثاني على التوالي ، ليت معروفي ينفع معك..
ـ لا تمن عليَّ بالمساعدة ، سيارات الأجرة تملأ البلد..
مد هاني كفه كالمتسول ، وقال:
ـ اعتبرني سائق أجرة يومين..
قلت ، دون أن أستجيب لدعابته:
ـ انتظرني في السيارة ، سألحق بك بعد قليل..
ـ إلى أين ستذهب؟
ـ سأطمئن على الطفلة..
استوقفني هاني وقال في ضيق:
ـ لن أنتظر..
ـ سأغيب دقائق فقط..
ـ مالك ولهذه الطفلة؟
ـ قلت لك لن أتأخر..
تأفف هاني وقال:
أنت تضخم الأمور دائما ، آلاف الأطفال يقذفون في العراء كل يوم ، الملايين منهم يتضورون جوعا في أفريقية هذه الطفلة ليست أفضلهم!..
قلت محاولا إقناعه:
ـ ليست أفضلهم طبعا ، لكنها واحدة منهم ، وعلى كل من يصادف هذه المخلوقات البريئة أن يقوم بواجبه نحوها ، ويهتم بها ، ليعوضها بعض العطف والرعاية التي حرمت منها..
قال هاني وهو يطامن من لهجته الحادة:
ـ أنا يا عزيزي ليت ضد اهتمامك بالطفلة ، لكنك متعب الآن ، ويمكنك أن تراها فيما بعد..
قلت ، وأنا أسبقه بخطوات حاسمة:
ـ قلت لك : لن أتأخر..
ثم توقفت والتفت إليه مستدركا:
ـ تعال معي لو أردت..
هز رأسه في يأس وهتف وهو يصر على أسنانه:
ـ أنت عنيد كالمتنبي ، سيقتلك أحدهم ذات يوم من شدة الغيظ ، وسيجتث رأسك بسيف مأجور..
ـ هل ستأتي؟
ـ سآتي .. سآتي وأمري لله..
وصلنا إلى جناح الأطفال ، فوجدنا الدكتورة أحلام عند الطفلة تقدم لها وجبتها الصباحية ، خفق قلبي وأنا أرى أحلام وهي تحتضن الطفلة كأم رؤوم ، وقد أمسكت زجاجة الحليب بيدها ، ومالت برأسها الجميل ذات اليمين وتركت نظراتها الوادعة تدثر الطفلة بحنان سابغ ، وعطف يتوهج من عينيها كأشعة الشمس الدافئة..
قلت لهاني وأنا ألكزه بكوعي:
ـ انظر كيف تهتم أحلام بالطفلة؟
والتفت إلى هاني في نظرة خاطفة ، فلمحت في وجهه تعبيرا غامضا ، وظننت أنه مازال غاضبا لأني أخرته ، فقلت له مازحا:
ـ ابتسم ، ولاتكن نكدا إلى هذا الحد..
قال هاني بلهجة تطفح بالضيق:
ـ صلاح أرجوك .. ألق نظرة على طفلتك ودعنا نمضي..

تقدمت من أحلام وجعلت أنظر إلى الطفلة من خلف كتفها الأيسر..
كانت الطفلة تمتص حلمة الرضاعة في شهية ، وتنظر إلى أحلام نظرة بريئة ، وكأنها تقدم لها الشكر على ما تبديه نحوها من رعاية!..
ووجدتني أقول لها دون أن تشعر بوجودي:
ـ من لا يعرف أنك طبيبة ، يظنك أم الطفلة..
التفتت أحلام ، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة ، لكنها ما إن رأت هاني يقف عند الباب حتى طوت ابتسامتها العذبة ، وقالت وهي تتكلف الجد:
ـ حالة الطفلة مرضية الآن!..
التفت نحو هاني وقد مر بخاطري شيء فوجدته يتململ في مكانه ، ولم يلبث أن قال وهو يهم بالمضي:
ـ أنا بانتظارك في السيارة..
ثم مضى بعصبية ظاهرة!..
هذا الفتور بين هاني وأحلام يقلقني منذ أيام!.. ثمة شسء لا أدريه قد حدث ، وخلف في نفسيهما جمودا ونفورا بدأ يتمادى بالظهور..
شيء غامض لا يسر استطاع أن يمتص روح البساطة والمرح التي كانت تخيم على علاقة الزمالة التي جمعتنا في مهنة واحدة ومستشفى واحدة!..
واستأذنت أحلام مودعا ، ثم مضيت خلف هاني..
ماذا وراءك من يا هاني من أسرار؟!..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة